ولم تخل هذه الانتخابات من مفاجآت مثيرة لم ترصدها معظم مؤسسّات استطلاعات الرأي. كما أن الكتلة الناخبة التركية عبّرت عن مزاج معقّد كان عصيّا استشرافه. ولئن توقّع بعض المحللين الموضوعيين فوز أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية بولاية رئاسية جديدة مقابل فقدان حزبه للأغلبية البرلمانية، فإن النتائج أتت بمشهد آخر.

استطاع حزب أردوغان من داخل "تحالف الجمهور" الذي يجمعه مع أحزاب أخرى (الحركة القومية، الرفاه الجديد، الاتحاد الكبير) الحصول على الأغلبية في البرلمان بنسبة 49.37 بالمئة من الأصوات والفوز بـ 322 مقعدا داخل البرلمان.

بالمقابل لم يستطع "تحالف الأمة" المعارض (الشعب الجمهورية، الجيد، الديمقراطية والتقدم، المستقبل، السعادة، الديمقراطي) إلا الحصول على نسبة 35.12 بالمئة من الأصوات والاكتفاء بـ 213 مقعداً. أما تحالف "الحرية والعمل" (الذي يقوده حزب الشعوب الديمقراطي الكردي تحت اسم "اليسار الأخضر")، فقد نال نسبة 10.5 بالمئة من الأصوات مكّنته من الفوز بـ 67 مقعداً.

ومن دون الاستغراق في خرائط الأرقام والنسب، فإن النتائج البرلمانية حرمت المعارضة من تحقيق وعدها بالانتقال من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني، وهي حقيقة ستؤثّر مباشرة على خيارات المقترعين للمعارضة في الجولة الأولى، والتي قد لا تجد ضرورة للتصويت لمرشح المعارضة كليتشدار أوغلو في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، طالما أنه لا يملك أغلبية برلمانية للإيفاء بوعوده.

ووفق نتائج الجولة الأولى، بات الناخب مدركا للوهن الذي سيصيب عملية الحكم في البلاد في حال فوز كليتشدار أوغلو بالرئاسة من دون تمتّعه بأغلبية برلمانية وازنة، وهو أمر قد لا يصبّ إيجابيا في صناديق الاقتراع لصالح منافس أردوغان. وبات الناخب على علم أيضا أن الرئيس الحالي، الذي تفوّق على منافسه في الجولة الأولى بفارق بحوالي 2.5 مليون صوت، يمتلك أرجحية مجتمعية عبّرت عنها النتائج البرلمانية بما يقويّ من حظوظه بالفوز بولاية جديدة من 5 سنوات في موقع الرئاسة.

تجري الانتخابات بعد أشهر من وقوع الزلزال المدمّر في تركيا في 6 فبراير الماضي. أفتى بعض المراقبين حينها بأن الكارثة قد تؤدي إلى تأجيل موعد الانتخابات ليس فقط بسبب عوائق عملانية ولوجستية، بل بسبب تأثّر سمعة حكومة حزب العدالة والتنمية بالفوضى وسوء الإدارة والتأخر بالاستجابة والتدخل لمواجهة الحدث. وتسرّع موالون للمعارضة أيضا في استسهال استنتاج أن "ربّ ضارة نافعة"، وأن هدية أتت من السماء إلى المعارضة لحصد تداعيات ويلات الأمر على شعبية الحزب الحاكم وزعيمه.

في ذلك الحين أذكر أني كنت أتابع تدخّلا لأحد مراسلي إحدى القنوات الإخبارية الفرنسية من موقع الزلزال يتحدث عن استياء لدى الناس من الأداء الحكومي والبطيء والبيروقراطي في تأمين الحاجات الطارئة. لكن الرجل استغرب أنه حين كان يسألهم إلى من سيصوتون في الانتخابات الرئاسية، كانوا يردّون بعفوية وتلقائية: هل هناك غير أردوغان؟

قلَبَ حزب العدالة والتنمية السحر على الساحر واستطاع "استغلال" حدث الزلزال وتجييره صوب الحملة الانتخابية. كثّفت الحكومة من حضورها، وسرّعت ورش إزالة الأنقاض والأعمار. ودفعت بالتعويضات نحو المتضررين من دون المرور بالمسالك البيروقراطية المعرقلة. ولا عجب أن كل هذه المناطق المنكوبة صوتت لصالح أردوغان وحزبه من دون لبس وتردد.

قام خطاب أردوغان وحزب العدالة والتنمية على تراكم رصيد من المنجزات تحققت في البلاد منذ استسلام السلطة بعد انتخابات عام 2002 التشريعية.

وقام خطاب كليتشدار أوغلو وأحزاب المعارضة على مهاجمة ما وصف بالنزوع نحو الاستبداد الذي يهدد الحريات، منذ أن مرر أردوغان تحوّلا دستوريا، من خلال استفتاء في 16 أبريل 2017، نقل به تركيا إلى نظام سياسي يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات وازنة ومرجحّة.

وفيما جمع أردوغان في خطبه وتحالفاته ما هو هوياتي ديني بما هو قومي عريق داخل المجتمع التركي، فإن كليتشدار أوغلو "ارتكب"، حسب مراقبين، "خطيئة" التحالف مع "الشعوب الديمقراطي" الكردي وإن ظهر تحت اسم "تحالف اليسار الأخضر"، مع ما يعنيه ذلك بالنسبة لقوميي تركيا من استفزاز لمشاعرهم ضد واجهة لحزب العمال الكردستاني المصنّف إرهابيا في تركيا ومعظم دول العالم.

ولم يستطع خطاب معاداة اللاجئين السوريين أن يحصد "التسونامي" الذي كان متوقّعا. وأثبت الأمر عدم ذهاب المجتمع التركي باتجاه عنصرية راجت في بلدان كثيرة في أوروبا ضد المهاجرين الأجانب. فحتى سنان أوغان، الذي روّج لهذه الحجج معاديا اللاجئين السوريين لدعم ترشّحه، سجّل نسبة هامشية (5.1 بالمئة) وانتهى إلى دعم أردوغان للجولة الثانية.

تشبه هذه الظاهرة ما حصل في فرنسا حين أقام المرشح اليميني الشعبوي إيريك زمور حججه على خطاب متطرّف وإقصائي وهوياتي ضد المهاجرين المسلمين. حتى أن استطلاعات الرأي وضعته في مرحلة من المراحل متقدماً على زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان. ومع ذلك فإن زمور لم يحقق في الانتخابات الرئاسية (أبريل 2022) إلا نسبة متواضعة (7.7 بالمئة)، ولم يستطع لاحقا الحصول على مقعد له في الانتخابات التشريعية (يونيو).

مقابل نفس الخطاب الذي انتهجه كليتشدار أوغلو واعداً بإخلاء تركيا من اللاجئين السوريين، بدا أردوغان مترفعا عن جدل من هذا النوع، واعداً باستقرار داخلي وسلم أهلي يقي البلاد شرور تلك السجالات.

وإذا ما نهل الرجل رصيدا تقليديا من شرائح التديّن والهوية الإسلامية داخل المجتمع التركي، فإنه لامس أيضا مشاعر قومية تركية رأت في إجراءات حكومة أردوغان في شمال سوريا والعراق، كما في تمدد النفوذ التركي في مناطق بعيدة في العالم، وانتهاج سياسية سيادية مستقلة وبراغماتية في التعامل مع الشرق والغرب، مصدر فخر للوطنية التركية ببعدها القومي الذي لا يخلو من أتاتوركية متجذّرة.

استفاد أردوغان من حملات شنّتها صحف ومجلات غربية ضده. سوَّقَ أن الأمر يعبّر عن كره بنيوي لتركيا وهويتها ومحاولة لمصادرة حقّ المقترع واستقلاليته في اختيار مرشحه.

واستفاد أيضا من عدم انخراط المنظومة الغربية في حملة واسعة ضده، أولا، لأن واشنطن وأوروبا فضّلت الاستمرار في التعامل مع من تعرف وتوقّع انفعالاته مقابل التعامل مع كليتشدار أوغلو الذي لاحظت بعض الخفّة في موافقه. وثانيا لأن تلك العواصم استنتجت أن المشهد الانتخابي معقّد لا سيما أن تقارير سفاراتها رجحت بقاء حضور أردوغان زعيما لبلاده.

واستفاد أيضا وأيضا من سلم إقليمي تمكّن من تحقيقه منذ انخراطه في استدارة لتصفير المشاكل وتطبيع العلاقات مع العالم العربي شمل خصوصا السعودية والإمارات ومصر معطوفاً على فتح صفحة جديدة مع دمشق.

ستفرج الصناديق عن اسم الرئيس الفائز، لكنها أفرجت قبل ذلك عن مزاج المجتمع التركي وردّ فعله على تحوّلات إقليمية ودولية كثيفة تتعلق ببلدهم، ما ذهب بأصوات الناخبين إلى ما ذهبت إليه برلمانيا وما ستحسمه رئاسيا بعد ساعات.