وليس السّؤال الجدير بالتّناوُل، هنا، هو ما إذا كان ذلك يقع، فعلاً، في قلب أهداف روسيا من عمليّتها تلك (فقد يكون منها بمنزلة الهدف البعيد)، إنّما الجدير بأن يكون موضعَ سؤالٍ وبحثٍ هو إذا كان يَسَع العمليّة الرّوسيّة الجارية أن تقود، حقّاً، إلى إنهاء نظامٍ دوليّ نشأ منذ ثلث قرن. وللدّقة، فإنّ السّؤال الأجدر بالاهتمام هو: هل يتوقّف تغييرُ نظامٍ دوليّ على حدثٍ عسكريّ من نوع العمليّة الرّوسيّة الخاصّة - وهي محدودة - أو من أيّ نوع آخر أكبر وأشمل منها؛ أم لمثل ذلك التّغيير شروطٌ أخرى وأدوات أخرى غير هذه؟

واضحٌ من تصويب السّؤال، إذن، أنّ الأمر لا يتعلّق فيه (= التّصويب) بمدى العمليّة الرّوسيّة (محدودة، موسّعة)، أو بقدرات روسيا العسكريّة وتوازن القوى بينها وخصومها الغربيّين، بمقدار ما يتعلّق بالشّـكّ في أن يكون سقوطُ نظامٍ وقيامُ آخر ممّا يتقرّر بمواجهاتٍ عسكريّة حكماً. انهار الاتّحاد السّوڤييتيّ، مثلاً، ومعه منظومتُه الأوروبيّة الشّرقيّة «الاشتراكيّة» من غير حرب، وانتصر الغرب الرّأسماليّ في الحرب الباردة من غير مواجهات عسكريّة و، بالتّالي، زال نظام الاستقطاب بين العظمييْن وقام، محلّه، نظام الواحديّة القطبيّة من غير حرب. وهكذا ما كان العامل العسكريّ ونشوبُ حروبٍ وحده المقرِّر في صناعة حقائق العالم. نعم، في وُسْعه أن يعدِّل التّوازنات ويعيد تحديد الأحجام، ولكن ليس إلى درجة تغيير النّظام جملةً.

إذا انطلقنا من هذه الاستدراكات الاحترازيّة، أمكننا إعادة طرْح أسئلة متفرّعة من السّؤال الأوّل، ولكن على نحوٍ من الدّقّـة أكبر. مثلاً: ما هي سمات النّظام الدّوليّ القديم التي يَفْترض مَـن يفترض أن تنهيها العمليّة الرّوسيّة الخاصّة فينتهي - بانتهائها - ذلك النّظامُ السّابق/الحالي؟ وهل في جملة هذه السّمات ما تستعصي إزالتُه جملةً؛ ثم هل من أخرى قابلة للتّعديل؟ وما عساها أن تكون صورة ذلك النّظام في حالِ النّجاح في إحداث تعديلات فيه؟

من النّافل القول إنّ أَظْهَـر ما ميَّز هذا النّظام الدّوليّ، النّاشئ عقب زوال الحرب الباردة، أنّه نظام القطب الواحد المتفرِّد بأموره خلافاً لما كان عليه سابقُه من شراكةٍ في إدارة شؤونه بين قطبيْن. والنّظام الذي من هذا النّمط الواحديّ يخلو، تماماً، من أيّ توازُنٍ فيه؛ وتلك هي حال هذا النّظام في تسعينيّات القرن الماضي والعقد الأوّل من هذا القرن. والحقّ أنّه كان، فعلاً، نظاماً أوحديّاً انفردت فيه الولايات المتّحدة الأمريكيّة بالقرار الدّوليّ، وبالسّلطة النّافذة في الأمم المتّحدة ومجلس الأمن، وباتّخاذ قرارات مصيريّة نيابةً عن العالم و- أحياناً- من دون العودة إليه. ولكنّ هذا القطب لم يكن ينتحل لنفسه دوراً أكبر منه؛ فلقد كانت الولايات المتّحدة، في العقدين المومأ إليهما، أقوى قوّة اقتصاديّة وعسكريّة وتكنولوجيّة في العالم و، بالتّالي، استمدّت قوّتَها السّياسيّة وانفرادها بالسّلطة الكونيّة من اجتماع تلك القوى التي كانت تحتازها من غير منازع.

على أنّ الانفراد بالقوّة والقيادة معطًى تاريخيٌّ انتقاليٌّ وتداوُليّ في الوقتِ عينِه، وهو لا يقبل الدّيمومة أمام مفاعيل قانون التّغيّر: القانون الوحيد الثّابت في كلّ نظام. ولقد تغيّرت معطياتٌ كثيرة في النّظام الدّوليّ في هذه الحقبة بالذّات: صعِدتِ الصّين ودولٌ كبرى من الجنوب (الهند، البرازيل...) كقوًى اقتصاديّة جديدة؛ واستعادت روسيا عافيّتها العسكريّة والاقتصاديّة  والسّياسيّة منذ عقدٍ ونصف؛ ونشأت قوًى اقتصاديّة منافسة داخل الغرب نفسه («الاتّحاد الأوروبيّ»)، في الوقت عينه الذي سجّلت فيه الإدارةُ الأمريكيّة للنّظام الدّوليّ إخفاقات فادحةً، وقادت إلى حروب غير قانونيّة، وأنتجت مآسٍ لا حصر لها و، بالتّالي، ارتفعت في وجه الهيمنة الأمريكيّة اعتراضات هائلة من هنا ومن هناك، في تَلازُمٍ مع دعواتٍ متصاعدة إلى إعادة تصحيح الخلل الدّابّ في توازن القوى في النّظام الدّوليّ، في ضوء حقائق التّحوُّل الجديدة في القوى والأحجام.

اليوم، وفي امتداد وقائع العمليّة الرّوسيّة ونتائجها، تتصاعد المطالبات بإحداث تغيير في النّظام الدّوليّ السّائد، القائم على هيمنة أمريكيّة لم تعد لها - في راهن الأوضاع - الحوامل الماديّة التي كانت لها قبل ثلاثين عاماً. وإذا لم تكن العمليّة العسكريّة الرّوسيّة قد فعلت، في النّظام الدّوليّ، شيئاً سوى أنّها حرَّكت هذه المطالبات على أوسع النّطاقات، وأفقدت الولايات المتّحدة الأمريكيّة هيبتها أمام قسمٍ كبير من حلفائها في العالم (وفي الجنوب خاصّةً)، فقد فعلت كلّ شيء. وعليه، نميل إلى الاعتقاد أنّ النّظام الدّوليّ الحالي سيستمرّ في الأمد المنظور (لسببٍ هو استمرار أمريكا قويّةً عسكريّاً واقتصاديّاً)، ولن يشهد على تغييرٍ جذريّ فيه، ولكنّه سيكون - في الوقتِ عينِه - عرضةً لتعديلاتٍ فيه لا مهْرب منها، من أجل ترجمة الحقائق الدّوليّة الجديدة على النّحو الذي يُعاد به ذلك القدر الضّروريّ من التّوازن إلى ذلك النّظام. والرّاجح عندي أنّه سيصبح، بعد هذه التّعديلات، نظاماً مزيجاً من نظام التّعدّديّة القطبيّة، اقتصاديّاً وتكنولوجيّاً، ومن نظام الثّنائيّة القطبيّة (الأمريكيّة- الرّوسيّة) سياسيّاً وعسكريّاَ.