كانت نتيجة البصرة هي انتصار النسخة التشرينية للهوية العراقية على النسخة الأخرى الولائية التي تروج لها الفصائل المسلحة والقوى السياسية المتحالفة مع إيران. تقوم هذه النسخة الولائية على ربط عضوي بين العراق وإيران لإنتاج هوية سياسية عابرة للحدود جوهرها مذهبي شيعي، وظاهرها مناهضة الغرب باسم مفاهيم ملتبسة وانتقائية للسيادة الوطنية عبر ما يُسمى بمحور المقاومة.

ما منع خليجي 25 من أن يكون حدثاً رياضياً طبيعياً يثير حماسة جمهور عراقي واسع عاشق لكرة القدم، وعابر للانتماءات العرقية والدينية، هو السياق السياسي للحدث نفسه: إنهاء حظر إقليمي ودولي على الملاعب العراقية تواصل على مدى أكثر من أربعة عقود منع البلد من استضافة دورات رياضية إقليمية وعالمية بدءاً من الحرب العراقية - الإيرانية 1980-1988، ومروراً بالغزو العراقي للكويت في عام 1990 في ظل النظام البعثي السابق، وصولاً إلى اضطراب الأمن المتواصل بعد إطاحة هذا النظام في 2003.

مَثَّل رفع الحظر، الذي فرضه بشكل أساسي الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، لحظة فرح عراقي جامعة شعبياً ورسمياً، خصوصاً بعد جهود مضنية بذلتها الدولة العراقية لرفع هذا الحظر وتقديمه للمجتمع على أنه إنجاز.

من هنا كان الاستثمار الرسمي والسياسي الكبير في خليجي 25، من ضمنه حضور رؤساء السلطات الثلاث، فضلاً عن رئيس إقليم كردستان ووزراء ومحافظين وسواهم من شخصيات عامة، في حفل الافتتاح.

رافق هذا الاستثمار بالحدث تعطش شعبي لحس طبيعي بالحياة في بلد يفتقر مثل هذه الحياة واعتاد مكرهاً تجربة سوء استثنائي عام طويلة، جوهرها التدهور في كل المجالات العامة، اقتصادياً وخدمياً ومؤسساتياً، بدأت في 1990 وتواصل تدهورها، في سياقات مختلفة، بعد 2003 لتتصاعد معها النقمة الشعبية. هكذا، وعلى نحو صحيح، اعتبر الجميع في البلد، كنخبة سياسية وكمجتمع، خليجي 25 استعادةً مؤقتة ومُرحباً بها لحياة عامة طبيعية. 

في هذا السياق "الطبيعي" المُنتزع من زمن السوء العام، حصلت المواجهة المفاجئة وغير المخطط لها بين نسخة الوطنية العراقية التي شكلتها تشرين، عبر احتجاجها الاستثنائي والباسل بين أكتوبر 2019 وأبريل 2020، بالدم والعناء والصوت المختلف المطالب بوطن يحترم كرامة العراقيين ويخدمهم بوصفهم أفراداً متساوين على نحو حقيقي وغير مشروط ونسخة الطبقة السياسية الحاكمة بتحديثاتها الولائية. تقوم هذه الأخيرة على تعريف العراقيين فوقياً على أساس تراتبي وتمييزي غير معلن كأعضاء في جماعات عرقية ودينية تمثلها نخب سياسية قومية ومذهبية.

اتخذ المحتوى السياسي والمؤسساتي لهذه الوطنية التمييزية والفوقية شكل المحاصصة السياسية في السلطة والنفوذ التي تحول الوطن وموارده لخدمة الاحزاب المهيمنة وليس المجتمع. جاءت الفصائل المسلحة لتجعل هذه النسخة أكثر وضوحاً وتحدياً للمجتمع والحقيقة من خلال ترسيخ خطاب التمنن، أو ما تعرف بـ"المِنيّة" في الاستخدام اللغوي الشعبي العراقي.

بموجب هذا الخطاب، يحتكر قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني السابق، وأبو مهدي المهندس، نائب رئيس الحشد الشعبي، اللذان اغتالتهما الولايات المتحدة الأميركية بضربة جوية في بغداد مطلع عام 2020 زعامة الوطنية العراقية بوصفهما الزعيمين اللذين أنقذا العراق من احتلال أكيد على يد داعش، ومن هنا جاءت تسميتهما بـ"قادة النصر".

تلغي هذه السردية المشوهة أدواراً رئيسية ومهمة لقوى أخرى في هزيمة تنظيم داعش كقوات مكافحة الإرهاب العراقية التي حررت المدن والتحالف الدولي الكبير بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن مساهمات لبقية صنوف الجيش العراقي وقوات البيشمركة. 

في البصرة أرادت القوى الولائية إبراز هذه السردية والاحتفاء بها وتمثيل العراق عبرها أمام دول الخليج وجمهورها وإعلامها من خلال التأكيد المخالف للحقيقة على أن بطولة خليجي 25 ما كانت ستحدث ويعيش العراقيون مع ضيوفهم الخليجيين لحظة طبيعية ومتعة رياضية لولا شجاعة وتضحيات "قادة النصر." حسب مصادر مطلعة وإعلانات لمنصات إعلامية قريبة من هذه القوى، كانت الخطة هي إبراز هذه السردية، عبر حملة ترويج تتضمن ملصقات وهتافات وأناشيد وصوراً، في بعض مدن البصرة وشوارعها التي ارتادها خليجيون والملاعب التي جرت فيها مباريات البطولة الرياضية.

ما منع بروز هذه السردية المزيفة وهيمنتها على مدى أيام البطولة هو الحضور الشعبي العراقي الهائل والعفوي من مختلف محافظات البلد ومناطقه في البصرة. جاء هذا الجمهور من أجل الاستمتاع بلحظة رياضية طبيعية تأخذه بعيداً عن سوء الأوضاع الذي يبدو مزمناً لكن سرعان ما تحولت هذه التجربة نفسها إلى إعلان وطنية عراقية محتواها تشريني في خضم الانتصارات الرياضية للمنتخب الوطني والاحتفاء الشعبي البصري بعراقيي المحافظات والمناطق الأخرى الذين فُتحت جوامع ومضافات عشائرية وبيوت لاستضافتهم.

كان فوز المنتخب المتكرر في مباريات البطولة، ومن ضمنها المباراة النهائية المثيرة ورفع الأعلام العراقية الكثيف في البصرة تشجيعاً للمنتخب وفرحاً بفوزه المتكرر في مباريات البطولة وصولاً الى رفعه في مناطق لم تعتد هذا العلم ولم ترحب به بل تنظر له كرمز لاضطهاد عرقي سابق يمكن أن يتجدد، كما في إقليم كردستان، كانت هذه مجتمعةً، ظاهرةً جديدة تفصل بين البلد كوقائع اجتماعية وإنسانية بما تعنيه من تضامن شعبي، وبين سلطة وأحزاب حاكمة يشعر المجتمع بالغضب منها ويرتاب بها لأسباب مفهومة ومشروعة.

في صياغة تشرين للهوية العراقية، كانت الخطوط العامة حاضرة فقط. في عجالة الاحتجاج التشريني وازدحامه بالأحداث، بالفوضى والعفوية التي طبعته، ومواجهته للقمع المنظم، رسمت هذه الخطوط القيم الأساسية التي عبر عنها الاحتجاج وخلاصتها التأكيد على قيم المساواة بين العراقيين وفردانيتهم والرغبة بنظام سياسي ديموقراطي عادل يوفر الفرص ويعمل من أجل رفاهية المجتمع ورفض الجماعاتية في تحديد هوية العراقيين والتعامل معهم على أساسها. بقيت الكثير من التفاصيل غائبة في إطار هذه الخطوط العريضة.

صنع خليجي 25 بعض هذه التفاصيل ومن بينها الموضوع الحساس المتعلق بعلاقة العراق بالعالم العربي. كان التأكيد المتواصل للبصريين، ومعهم عراقيون كثيرون، على أنهم عرب وتواصلهم مع عرب مثلهم يشتركون معهم باللغة والتقاليد والإيمان الديني العام أمراً طبيعياً تأخر كثيراً، إعلان مصالحة مهم مع العروبة وارتياح لها واتساق معها، ليس بوصفها توجهاً أيديولوجياً يستند على القومية العربية بافتراضاتها التمييزية، بل كثقافة اجتماعية عامة وشعبية، لا محتوى سياسي.

اختصرت أغنية الافتتاح التي أدتها ببراعة المغنية العراقية، ذات الأصول البصرية رحمة رياض أحمد، هذا المحتوى الاجتماعي للعروبة: ترحيب بالضيوف وسعادة غامرة بمجيئهم ورغبة بالتواصل معهم وتأكيد على قيمة الجوار والروابط الإنسانية المشتركة. في النسخة التاريخية للعروبة التي اختطفتها القومية العربية، كان لا بد من وجود خصم سياسي ووجودي للعرب يدفعهم للتضامن والاتحاد إزاءه. في النسخة التشرينية التي صنعتها البصرة لهذه العروبة، كان التشابه الإنساني عبر اللغة والتقاليد والثقافة والجوار الجغرافي هو الأساس في فهم البعد العربي للعراق وعلاقته بالعالم العربي.

كان هذا التشكيل للعروبة والتأكيد عليه هزيمة كبيرة للنسخة الولائية للوطنية العراقية التي قامت في جزء أساسي منها على شيطنة العالم العربي، وتكريس نظرة مرتابة من العروبة والتآمر العربي المفترض ضد عراق ما بعد 2003.

خليجي 25 انتصار مهم آخر لتشرين والهوية التي صنعتها. يصر بعض التشرينيين أنه لا قيمة حقيقية لتشرين من دون فعل احتجاجي في الشارع يزعج السلطات ويقوض سيطرتها، فيما الواقع يشير، كما أظهرته البصرة، أن قوة الأفكار وامتدادها وتحولها إلى هوية إنسانية ومفتوحة، بمحتوى وطني وديموقراطي، هو الإنجاز التشريني الأهم الذي ينبغي أن يتواصل ويتراكم.