ذلك الإهداء المثير للجدل، الذي توّج به ملحمته «الأرض البور» ليتزامن وصوله إلى القارة العجوز مع صعود نجم الفاشية الأوروبية في إيطاليا وألمانيا، فيتبدّد حلم الخلاص من الإفلاس الروحي الكينوني، الذي فرّ بسببه من واقع «العالم الجديد»، ليغدو العالم كله فردوساً ضائعاً في ظلّ غياب تميمتَين كانتا رأس مال في التجربة البشرية، هما: الحب، المعبَّر عنه بالعشق، ثمّ الحكمة، المعبَّر عنها في أمثولته بـ فلسفة «إسبينوزا».

وأحسب أن إليوت أسقط في الوصيّة جملة يمكن أن نتخيّلها في سياق الشقّ الأوّل بحيث تقول: «لا يبقى لإنسان عالمنا، أمام ورم في مفعول «باطل الأباطيل إلّا…. إلخ»، يقينا منّا بحقيقة هذا «الباطل» الذي يفترس وجودنا، ويفقدنا ما اعتدنا أن نسمّيه «المعنى».

وبتأمّل الوصيّة نستطيع أن نحدّد موقفنا من الشقّ الأوّل، قبل أي تحديد للموقف من ورم خبيث هو الباطل، ومن ترياق حميد هو الصلاة في معبد اسبينوزا. فأيّ حبّ يعنيه إليوت هنا؟ هل هو الحبّ بمفهومه الحسّي، أم الحبّ في مفهومه الشمولي، الإنساني، الروحي تحديداً؟

وكي نحسم أمرنا، يجدر بنا أن نحتكم إلى أفلاطون، الذي أوصانا بأن «نحيا لهواً». ما معنى أن يحيا الإنسان لاهياً؟ معنى أن يحيا الإنسان لاهياً لا يعني أن نستسلم للهوى، أو أن نستهتر بكل شيء، فنتفرّغ لممارسة اللعب في بُعده الحرفيّ، ولكن أن نحسم أمرنا بشأن الحُلم، لكي نتمكّن من اختيار صيغة في تجربتنا، تستقيم في نبرة لهو، لأننا، عندما نترجم بُغيتنا في ترسيمة  لهو، فتلك حيلة تخفف علينا وطأة الطلب. أي أن اللهو هنا مجرد قناع، لتسويق حُجّة كينونتنا، فنتظاهر ذرّاً للرماد في عيون أهل الحسد، بإخفاء نوايانا، لأن ذلك لا يبطل مفعول الحسد وحسب، ولكن يحقق ممارسة الخداع في حقّ القدر أيضاً. فتغليف النوايا، بما لم تُنتدب إليه، عبقرية سخّرها سدنة معابد مصر القديمة، للإحتيال على العامّة، لكي يجيروا الوصايا المقدّسة من سوء الفهم، ومن بطش النفوس الشريرة، إلى الحدّ الذي تحوّل فيه النهج، إلى إسم للغة الوصايا، ورثناه في مصطلح «هيروغليف»، لتغدو التسمية وساماً في حقّ الاعتراف بالاستسرار ديناً. فالأمان رهين الحجب. رهين القناع. رهين الاستعارة. رهين التورية، حتى لو استوى في منزلة الطلسم. هذا هو سبب الهوس بكل ما استخفى في منطق دهاة حديثي العهد بالتكوين، أي في تلك المرحلة المبكّرة من تجربة الجنس البشري في العلاقة مع المفاهيم.

فالحجاب هو تعويذة في مفاهيم أمم التكوين. فعدسة سحرية كمقلة العين خطرٌ مروّع في نظر الأوائل، ولو لم تكن كذلك لما نصّبتها الديانة المصرية الحكيمة رديفاً للمعرفة، في بُعدها الغيبيّ، في كلمة «توت» أو «تهوت»، الدالة على المعرفة من جانب، وعلى الإصابة بالعين من جانبٍ ثانٍ، لأن قاسمهما المشترك الأعظم هو الرؤية: الرؤية بمفهومها الحسّي، والرؤية بمفعولها الروحيّ، أو الغيبيّ، أي المعنويّ المترجم في الحرف المعرفيّ، وهو العقيدة المعتمدة في ديانة بدئية، كديانات الهند القديمة، التي تستنزل تحريماً صارماً على كشف النوايا، لأن فضحها بعضلة اللسان هو فرمان بإبطال مفعول فحواها، لأن السّمع حاسّة، لا تختلف في المفعول، عن حاسّة البصر، لأن مبدأ العرفان هو قاسمهما المشترك الأعظم.

 2

اللّهو إذاً، في العلاقة مع الواقع، ضربٌ من تمويه. تمويهٌ لتحصين الفحوى من شرّ العلَن. وكلّما أوغلنا في أدغال اللهو أبعد، كلّما تمكّنا من قطع مسافة أكبر في سبيل تحقيق أحلامنا، التي لم تكن يوماً سوى الترجمان الأمين للمعنى!

أمّة الملثّمين في صحرائي الكبرى أبَتْ، من فرط ولعها بالحجب، إلّا أن تستنزل حصون القناع في حقّ السيماء أيضاً، بعد أن فرغت من اعتماده ناموساً في حقّ العبارة، ليقين دهاتها بقدرة العين على الفتك بكل ما تكشّف في واقع، لا الإنسان وحده، ولكن ما تبدّى في واقع الأنعام أيضاً.

ولكن اعتناق دين اللهو، في عاطفة قدسية كالحبّ، عملٌ رهين استهتار، لا نضمن ألّا ينقلب إلى عبث، سيّما في حال احترافه في عرف الحسّ. وهو أيضاً افيون فانٍ، لأن الشيخوخة في رحابه دوماً شبح جلّاد. وهو ما يعني أن استقدامه كحُجّة في النزال مع المعنى، ملاذ لا يخلو من هشاشة. فما يحرج هنا هو «وقتية» الحبّ الحسّي، بل ووقتيّته المهينة، لأن كل ما هو فانٍ لا يعوَّل عليه. لهذا السبب يستعير الحبّ، في بُعده الروحي، سلطاناً على الواقع الإنساني، لأنه قيمة، والقيمة وحدها ذات سلطة في المبارزة مع الزمن، لأنه الموقف المعصوم من دنَسٍ هو النفع، كما هو الحال مع الحبّ من الجنس الآخر، المترجم في غنيمة حسّ، وهو: اللذّة! فالحبّ في بُعده الروحي موقفٌ زهدي. وأن يكون زهدياً سيعني أنه ألوهي. وأن يكون ألوهيّاً سيعني أنه منزٌّه عن روح الصفقة الحسيّة، والخلود لا يغدو له هبةً، ولكنه يغدو الحقّ الذي يتنزّل فيه طبيعةً.

 3

هل قلنا «طبيعةً»؟

الواقع أن الطبيعة هي موضوع الشقّ الثاني من الوصيّة. فأن يحرّضنا الحكيم على قراءة اسبينوزا، كخيارٍ بديل لمن أعجزه أن يدمن العشق افيوناً، فهذا ليس مجرد حسن ظنّ بصاحبة الجلالة الفلسفة، ولكنه دعوة لانتهاز الفرصة الأخيرة في أبجدية الفوز بالخلاص. أي أنه تحريضٌ صريح على وجوب التشبّث بتلابيب حُجّة الإنسان، الذي اختزل فلسفته كلّها في وصيّة تقول: «تشبّثوا بتلابيب الطبيعة»، كما الحال مع إسبينوزا.

فإذا أخفق الحبّ، المغلّف بصنوف اللّهو، في تحقيق الخلاص، فليس أمام الانسان إلّا الإحتكام إلى حرم الطبيعة، لاستنطاق الحقيقة التي لا نملك إلّا أن نؤسطرها، لكي تستعير سلطةً على واقعنا، سيّما إذا آمنّا باغترابها عن وجودنا، باغترابها عن معاجمنا، والطبيعة وحدها تستطيع أن تعزّينا في محنتنا، عندما تستضيف لهفتنا، بالإنابة عنها، لأن اغترابها، ليس سوى الشهادة في حقّ اغترابنا.

فالدعوة لقراءة إسبينوزا هي دعوة للحضور في فردوس الطبيعة، التي نصّبها الفيلسوف كطريقة لتحقيق السعادة. ولكن السؤال هو: هل السعادة هي الغاية في ناموس الحقيقة؟ ألا يوصي معلّمٌ آخر، هو كانط، بأننا لا نأتي إلى هذه الدنيا، لكي ننال السعادة، ولكن لكي ندفع دَيناً هو الواجب؟

ففي حين يحيلنا إليوت إلى درس اسبينوزا، يحيلنا إسبينوزا إلى درس الطبيعة، أمّا الطبيعة فتحيلها إلى درسها، القاضي بإغوائنا بغرض تسليم زمام الأمر لها. فهي تغتفر ضلالنا، لتبرهن لنا كم هي في صفقة الوجود أُمٌ، وهي تقتصّ منّا جزاء طيشنا، كي تبرهن لنا كم هي أبٌ، ولا تبخل بأن تواسينا، كلّما أجرمنا في حقّ أنفسنا، كي تبرهن لنا كم هي خِلّ، وهي تتسامح مع تجديفنا، فتداوينا من آثامنا، كي تبرهن لنا كم هي معلّمٌ. ولا تكشف أبداً عن تلقيننا الدرس القائل بأنها وحدها الأمّ والأبّ والخلّ والمعلّم. فإن استجبنا، ففي أحضانها الخلاص، وإن كابرنا، ففي استكبارنا الضياع؛ لأن، في عرفها، لا وجود لحقيقة خارج فردوسها: الفردوس الوحيد الذي نستطيع أن نناله بالمجّان.

 هنا نستطيع أن نستعير أقنعة اللّهو كما نشاء، لأننا نعلم أن الطبيعة سوف تتكفّل بإيوائنا دوماً، عندما يحين الميعاد، الذي يروقنا أن نسمّيه غياباً، في حين أنه، في الواقع هو الإياب!

 هامش:

من حقّنا أن نتساءل عن طبيعة العلاقة بين أن نمارس العشق، أو أن نمارس قراءة اسبينوزا، وهو ما لن نفهمه ما لم نتأمّل نصّ اسبينوزا، الذي نستطيع أن نختزله في وصيّة واحدة، هي في الواقع تلخيص لكل فلسفة هذا الحكيم، وهي: «تشبّثوا بتلابيب الطبيعة!».  لنتساءل: ما الحكمة وراء اعتناق دين الطبيعة، كحجّة لتحقيق الخلاص؟

الحكمة يقيناً ذات صلة حميمة بالعشق، الذي انتدبه إليوت، لكي يكون لنا في وجودنا ترياقاً لغياب الحقيقة في واقعنا المشفوع بالماليخوليا، وببقية الأمراض النّفسيّة، التي تسمّم حضورنا قيد هذا الوجود. فالحبّ إذا عاملناه كترجمان، لتعويذة العشق، في المفهوم الإليوتي، هو رأسمال الطبيعة. والطبيعة، في صفقة الكينونة، أمومة. والأمومة كلّها حبّ، وإلّا لما صارت في معاجمنا قِراناً، بل قرآناً، في كل ما متّ بصلة لإنتاج الحياة، وإلّا لما نصّبتها اللغات وصيّاً على الخلق، اشتقاقاً من Materea أي المادّة، لنستعير من هذا المصدر مفهوم الأُمّ كطينة أولى في معجزة الخلق، التي كانت ستبطل كمعجزة، فيما لو عجزت عن تعاطي الحبّ، كبطولة خارقة في إنتاج سرّ استحضار الطلسم، الذي حقّقنا بفضله الوجود قيد الوجود، ليتحقّق التماهي في الوصيّة، بين الطريقتين، العشقيّة والاسبينوزية، الاسبينوزية كتحريض على إدمان الطبيعة الأمومية، لأنها أيضاً عجينٌ ملفّق من عُقار عشق. والتماهي بالطبيعة ليس مجرد خلاص، ولكنه أيضاً خلود.