ولعل بوتين يستلهم مقولة معلمه الأكبر فلاديمير لينين "كيف يمكنك أن تقوم بثورة بدون إعدامات؟" فما أحدثه في الواقع السياسي أنها ثورة على النظام العالمي حققت هدفها بأنها أنهت القطبية الأحادية الحاكمة للعالم وأن لهذه الثورة إعدامات بالجملة فالكل متألم من تبعات الحرب فلا سلاسل إمدادات الغذاء سلمت ولا حتى الطاقة بل أن الألم وصل إلى الدولار الأميركي وهو المحمي بالقوة والنفوذ وبأطنان الذهب الأصفر.

لم تكن الولايات المتحدة التي كانت قد دفعت الناتو إلى استفزاز روسيا تتوقع أن تؤدي طموحاتها إلى أن تصل الأمور لكل هذه التداعيات الجيوسياسية العابرة للقارات، فلم تعد حسابات البيادق على حالها وتشكلت خرائط مختلفة تماماً في موازين القوى الدولية، الواقعية السياسية تدفع باتجاه النظر إلى أن المتغيرات في معادلات التوازنات الدولية حتى أن فكرة قيام نظام دولي متعدد الأقطاب تحولت لأطروحة حقيقية مع كشف الصين لرغبتها في انتهاز الفرصة المواتية لتحويل جزء من نفوذها الاقتصادي إلى نفوذ سياسي مفروض برغبة تحقيق مكتسبات من التراجع الأميركي.

ثمة حقائق لا يمكن اجتيازها فما تلى الحرب العالمية الثانية من توازنات سياسية بين القوى الكبرى تغير بالفعل وأن تشكلاً مختلفاً حتى وأن استطاعت أوكرانيا من توجيه ضربات للعمق الروسي فأنها لن تؤدي بالرئيس بوتين للتراجع خطوات كبيرة للوراء فهو سيفرض على الغرب مفاوضات ستتهي بتقسيم أوكرانيا لتكون حداً فاصلاً في الحرب الباردة الثانية كما كانت المانيا في الحرب الباردة الأولى، المقاطعات الأربع التي ضمتها روسيا ستظل حجر زاوية لنشأة النظام الدولي الجديد.

كوريا الجنوبية واليابان دولتان حليفتان للولايات المتحدة تشعر كل منها بخشية من كل هذه التحولات ومن أن تتحولا إلى بيادق في يد سيد البيت الأبيض، هذه الخشية لم تأتي من فراغ بل من توجهات الإدارات الديمقراطية التي حكمت الولايات المتحدة وأبدت رغبتها في الانكفاء وفعلت ذلك بشكل واضح بانسحابها المرتبك من أفغانستان وتحميل أوكرانيا فواتير هائلة من قيمة السلاح والعتاد لتكون محرقة في حرب غير متوازنة، كما أن استفزاز الصين في تايوان كانت بحد ذاتها رسالة تلقتها دول شرق جنوب آسيا بقلق فهي كمن يشعل النار في الجلباب الصيني.

الكل لا يريد أن يكون بيدقاً ورغماُ عن ذلك فهو لا يملك غير التعامل مع قوى النفوذ الممسكة بالحركة على الرقعة، الخشية والترقب هي أقوى حوافز التوتر السياسي الذي يحيط بالدول، اليابانيون والألمان اتخذوا خطوات جادة لتغيير عقائدهم الدفاعية فلم تعد دولة حليفة للولايات المتحدة تشعر الأمن الذي كان قبل حرب أوكرانيا، لم يكن العالم ينتظر بعد جائحة كورونا أن يحرك أحداً بيدقاً كهذا وخاصة في خط التماس بين الغرب وروسيا، وبما أن البيدق قد تحرك فأن المهم النظر في تبعات الحركة فلا يمكن للغرب أن يذهب بعيداً في طموحاته فليس من المنطق التعامل مع الاتحاد الروسي كما تم التعامل مع الاتحاد السوفيتي الذي كان قد تفكك بسبب تعطل الأيدلوجية المحركة له بينما روسيا تمتلك القوة الوطنية التي ستقاوم المد الغربي مهما بلغت قوته.

يعرف الكل أن لا أحد سيضغط على زر السلاح النووي حتى التكتيكي والتلويح باستخدامه جاء وسيأتي دائماً في سياق استعراض العضلات وأن الحرب هي حرب عض للأصابع ستستمر وستسمح للقوى الناشئة مزيداً من التوسع حتى يجد الغرب نفسه محاطاً بقوى كالهند والصين وحتى دولاً في أميركا اللاتينية، الرهان على كسر العظم رهان غير واقعي ويعلم الغرب ذلك تماماً فمن الصعب تدمير روسيا وحتى جرها لحرب استنزاف طويلة فها هي أقصى عقوبات اقتصادية لم تحدث شيئاً مع بوتين الذي يعرف أن كوبا وإيران وكوريا الشمالية باقتصادياتها الهشة لم تتغير مواقفها وتعاملت مع سياط العقوبات فكيف ببلد كروسيا.

الغرب لا يريد أن يخسر المعركة ومع ذلك عليهم أن يقرروا مدى قدرتهم على القبول بالواقع السياسي الذي حصل بعد أن حرك بوتين البيدق على رقعة الطاولة، الولايات المتحدة لم تعد وحيدة وعليها انتظار ما ستقرره الصين ورسيا وفي أي اتجاه سيمضي كل منهما، وهذا لا يعني بالتأكيد أن واشنطن خسرت مكانتها بالكامل ولكن لن تعود لها السلطة المطلقة على العالم وأن عليها أن تعيد تموضعها في النظام الدولي وتقبل بالتوازنات السياسية، الأميركيون لم يستمعوا لنصيحة هنري كسينجر الأولى كما أنهم تناسوا أن بوتين مفتون بأمجاد أسلافه القياصرة وأنه كان شاهداً على السقوط المهين لدولة السوفييت، العالم لن ينتهي هنا فمازال الكل بانتظار بيدق آخر يتحرك في صراع الأقوياء فلمن ستكون الحركة القادمة وما سيكون أثرها على شكل النظام العالمي هذا سؤال لا أحد يمكنه الإجابة عليه إلا صاحب الأعصاب الباردة المتوثب لمعركة الدبابات الكبرى في ربيع ليس ككل ربيع عرفه العالم من قبل.