وكثيراً ما كيلت الاتهامات للأوروبيين بأولوية مصالحهم الاقتصادية داخل السوق الإيراني على حساب الأخطار التي تشكّلها إيران على أمن الشرق الأوسط والأمن الدولي. حتى أن القارة الأوروبية وعواصمها الأساسية لم ترَ، على منوال ما لم تره الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما، "الانتفاضة الخضراء" عام 2009 في إيران في أعقاب انتخاب محمود أحمدي نجاد لولاية ثانية. قيل حينها إن "مفاوضات نووية" تجري مع طهران ولا يجب إقلاقها.

توافقت أوروبا والولايات المتحدة على غضّ الطرف عن ملفات حقوق الإنسان في إيران وانتشار ميليشياتها التابعة في دول الجوار وتجاهلت الانصات لبلدان المنطقة في هذا الصدد. الأولوية كانت تركّز على إنجاح ما تم التوصل إليه في فيينا عام 2015. وعلى الرغم من تباعد أوروبا من الولايات المتحدة في الموقف من قرار انسحابها من "خطة العمل الشاملة المشتركة"، وهي الاسم الرسمي لصفقة فيينا، إلا أن الطرفين تجنبا التدخل في شؤون إيران الداخلية ولم يضغطا بمستويات وازنة حين اندلع عدد من الاحتجاجات في إيران في السنوات الأخيرة.

لم تكن المواقف بين واشنطن من جهة وباريس ولندن وبرلين من جهة ثانية متعارضة بشأن الموقف من إيران بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي. بدا المشهد يقارب سيناريو توزيع أدوار تقوم به كل عواصم الـ 5+1، بما في ذلك موسكو وبكين، لتمرير الوقت ووضع الاتفاق على جهاز تنفس اصطناعي تواطأت إيران بقبوله. كان الجميع ينتظر تبدلا يأتي من طهران أو واشنطن لإعادة إنعاش الاتفاق المريض.

على هذا فإن مواقف أوروبا المتصاعدة ضد إيران هذه الأيام لا تأتي بالضرورة من دينامية أوروبية ذاتية مستقلة، بل تنهل أسبابها من مواقف تُصدرها الإدارة الأميركية في واشنطن. فإذا ما مدح باراك أوباما في "عقيدته" الشهيرة عام في مارس 2016 خصال إيران وانتقد جيرانها مهمّشاً حراك الإيرانيين الداخلي، فإن إدارة بايدن لم تستطع تجاهل "حراك مهسا أميني" وراحت تنفخ رياحا من سخط وإدانة ضد النظام وإفراط في التعبير عن تضامن وتأييد للمنتفضين.

ولئن فرضت ظروف إبرام اتفاق مع إيران إدارة الظهر الجماعية من قبل واشنطن وحلفاؤها لحراك الإيرانيين سابقاً، فإن "موت الاتفاق"، حسب تعبير بايدن، يقف وراء هذا الموقف الجماعي الجديد الداعم للمنتفضين، المُطلق لحزم العقوبات ضد مؤسسات وقيادات إيرانية، وصولا إلى إمكانية وضع الحرس الثوري على لوائح الإرهاب. تماما كما فعلت الولايات المتحدة عام 2019.

غير أن الغضب الأوروبي يتقدم قاسيا على نحو يفاجئ إيران نفسها. فمنذ قيام الجمهورية الإسلامية رفعت طهران لواء الصراع ضد "الشيطان الأكبر" من دون أن تدرج أوروبا داخل هذا التصنيف. وخلال كافة المراحل بقيت أوروبا تتعامل مع إيران في السياسة والبزنس موفّرة لطهران التفهّم، متمسكة بمكانة وسطية ما بين واشنطن وبكين وموسكو. لكن التحاق أوروبا المتصاعد هذه الأيام بالموقف الأميركي يثير أسئلة بشأن ما يُحضّر، لا سيما أن مراقبين يستنتجون أعراضا شبيهة بتلك التي قادت إلى غزو العراق عام 2003.

لا يمكن أبدا عزل المزاج الأوروبي بشأن إيران عن ذلك المرتبط بالحرب في أوكرانيا. يبرر الأوروبيون تضامنهم مع أوكرانيا ودعمهم العسكري المتصاعد لكييف على أساس قراءة تعتبر أن تلك الحرب هي حرب ضدهم جميعا تجري في أوكرانيا. وحين انخرطت المسيّرات والصواريخ الإيرانية في تلك الحرب، بدا أن إيران تقاتل مع الروس ضد أوروبا، وأن المسيّرات الإيرانية التي تضرب أهدافا داخل بلد مرشح لعضوية الاتحاد الأوروبي قد يضرب لاحقا أهدافا مباشرة داخل الاتحاد نفسه. وإذا ما قالت وزيرة خارجية ألمانيا إن مفاوضات فيينا لم تعد مهمة طالما طهران تقتل المنتفضين في الشوارع، فإن لبّ الكلام يستبطن رفضا لاتفاق يمنع إيران من اقتناء سلاح نووي فيما برامج الأسلحة الأخرى تطرق أبواب أوروبا بعنف.

لكن السؤال الأكبر يدور عما إذا كانت أزمة النظام في إيران هي كبيرة غير ظاهرة على نحو يحتاج إلى رفع مستويات التوتر والمخاطرة بالصدام مع الخارج. فإذا كانت أوروبا تنتهج صقورية تنقلب على حمائميتها بسبب الحرب في أوكرانيا و "موت الاتفاق"، فإن قيام طهران بإعدام الإيراني-البريطاني الجنسية علي رضا أكبري بتهمة التجسس لحساب لندن، في هذا التوقيت بالذات بعد أربع سنوات على اعتقاله (2019)، يبيح الاشتباه باستدراج إيران لجلبة خارجية متشددة يمكن احتمالها مهما كبرت مقارنة بأزمة داخلية تبدو أخطر مما يتسرّب إلى العالم.