الرابح الأكبر

يلحظ المتابع للشأن الأميركي بأن الولايات المتحدة قادرة على تصدير أزماتها إلى دول العالم، حيث قامت برفع أسعار الفائدة على الدولار، لتقليل التضخم الحاصل بسبب الحرب في أوكرانيا، الأمر الذي أدى إلى تراجع بعض العملات لدول العالم، التي تتمتع باقتصادات قوية ومتدنية على حد سواء، ولهذا قد يشهد العالم أزمة ديون وركوداً تضخمياً، وفي وقت تعتبر فيه أوروبا من أكبر المستوردين للطاقة نرى أن الولايات المتحدة حصدت فوائد جمة من الأزمة المستمرة مع استمرار الحرب في أوكرانيا، حيث ارتفعت صادراتها من الغاز والنفط رغم ارتفاع أسعارها، وهي من الدول الغنية بالطاقة. إضافة إلى ذلك استطاعت الولايات المتحدة الأميركية بفعل قوتها الكامنة وعلاقاتها المتشعبة وبشكل لافت منذ ذروة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق إعادة توحيد الغرب تحت رايتها وخطابها في مواجهة روسيا والصين في ذات الوقت، واختفت أصوات القادة الأوروبيين واليابانيين والأستراليين المتحفظة على تصعيد التوتر مع روسيا والصين.

أي في موازنة بسيطة يمكن الجزم بأن أميركا تعتبر الرابح الأكبر على المستوى الاقتصادي والسياسي من الأزمة الأوكرانية فارتفعت صادراتها من النفط إلى دول العالم وخاصة الأوروبية بعد الاستغناء تدريجياً عن استيراد الطاقة من روسيا، وباتت قائدة للغرب وتوجهاته بشكل مطلق، وهي التي دفعت الغرب لتبني أكبر حجم للعقوبات على روسيا في التاريخ المعاصر، وهذا بدوره يعتبر فائدة إضافية استراتيجية للولايات المتحدة الأميركية، ومن الفوائد التي جنتها وتجنيها أميركا مع استمرار الأزمة الأوكرانية أن الصناعات العسكرية الأميركية تشهد انتعاشاً تاريخياً، وسوقاً رائجة بعد حالة كبيرة من الكساد العسكري، حيث يحتاج القطاع العسكري الأميركي وارتفاع نشاطه دائماً إلى حروب وصراعات دولية حتى يستمر في الحياة والانتعاش واستيعاب مزيد من قوة العمل المحلية الأميركية وزيادة الناتج والدخل المحلي من بيع الأسلحة، الأمر الذي يقلل معدلات البطالة في أميركا ويرفع في الوقت نفسه معدلات النمو الاقتصادي السنوي الأميركي .

ماذا عن المستقبل؟

يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية ليس بواردها العمل على حل سريع للأزمة الأوكرانية، فمع استمرار الحرب تزيد الضغوط الاقتصادية على موسكو وهي في الأساس ليست قطباً اقتصادياً وفي نفس الوقت تستفيد أميركا من استمرار المعارك في أوكرانيا لإضعاف القوة العسكرية الروسية إلى أبعد الحدود وتالياً جعلها دولة هامشية على الصعيد العسكري والاقتصادي ومن دون مخالب تخوض من خلالها معارك مع الكبار للبحث عن دور ورسم نظام دولي جديد تكون موسكو أحد أركانه. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الصراعات الدولية تعتبر من العوامل الضاغطة على الاقتصاد الأميركي وبرز ذلك بصورة كبيرة عقب الأزمة الأوكرانية، وذلك لتأثر سلاسل الإمداد والتوريد إلى جانب نقص مواد الإنتاج الرئيسية وتزايدت معها أسعار الطاقة، الأمر الذي أثَّر على الشحن العالمي والمستهلكين، واستطاعت أميركا الاستثمار في ذلك حيث أصبحت البديل المباشر لروسيا في تصدير النفط والغاز إلى العالم وخاصة إلى أوروبا وبأسعار تزيد عن ثلاثة أضعاف أسعارها في السوق المحلية الأميركية. وحول المستقبل فإن إدارة بايدن ستذهب بعيداً للاستفادة من استمرار الحرب في أوكرانيا وستسعى إلى اصطفاف مزيد من دول العالم مع مواقفها خاصة الاتحاد الأوروبي لكون غالبية دوله تنضوي في إطار حلف الناتو العسكري الذي تقوده أميركا التي يتمحور هدفها المستقبلي والاستراتيجي حول أن تبقى الرأس الأوحد للنظام الدولي، وكذلك رسم خطواته، بحيث تمنع إنشاء تجمعات وتكتلات اقتصادية وسياسية في العالم بعيداً عن قبضتها وتوجهاتها على الصعيد الدولي، لكن السؤال هل ستبقى أميركا في المستقبل بقوتها الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، أم سيشهد العالم تغيراً عبر وسائل القوة الناعمة بعيداً عن الحروب والقوة الخشنة التي تستخدمها بعض الدول مثل روسيا؟
ويبقى القول إن استمرار الاعتمادية المتبادلة يمثل نقطة ضعف بين الدول حتى المتصارعة وفك عرى تلك العلاقات قد يكون مكلفاً جداً وصعباً مهما كانت المصالح متباعدة، الأمر الذي يجعل للشركات الكبيرة العابرة للقارات كلمة في إطار العلاقات الدولية ومستقبلها.