تفاعل أول تتبناه الأطراف الموقعة على الاتفاق، وبعض القوى السياسية الأخرى، ويعتبر أن الاتفاق مع المؤسسة العسكرية يضع ضمانات لتشكيل حكومة مدنية بالكامل. مقابل موقف ثان يرفضُ التسوية المرتقبة من منطلق كونها تعبيرا عن تدخلات خارجية في الشأن الداخلي السوداني، وهو موقف يتبناه حزب المؤتمر الوطني وتيارات إسلامية أخرى.

يشار إلى أن الاتفاق الإطاري قسَّم العملية السياسية القادمة إلى مرحلتين: مرحلة أولى تتضمنُ اتفاقا إطاريا يقومُ على التفاهمات التي وقعت بين قوى الحرية والتغيير، وبين المؤسسة العسكرية وأطراف قوى الانتقال الديمقراطي، وهي تفاهمات تشملُ تصورات المكون العسكري حول الدستور الانتقالي المرتقب، فضلا عن المسائل المتعلقة بوضع إطار دستوري يضمن إقامة سلطة مدنية ديمقراطية انتقالية.

أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الاتفاق النهائي ويتم خلالها تنفيذ نقاط الاتفاق الإطاري في أربع مسائل رئيسية كبرى، وهي العدالة الانتقالية، والإصلاح الأمني والعسكري، وتفكيك بقايا نظام عمر البشير (وهي مسألة غاية في التعقيد اعتبار كونها تحيل على امتداد التيارات الإسلامية) وأخيرا تفعيل اتفاق جوبا لسلام السودان ومواصلة عملية السلام.

الواضح من خلال هذا الإطار أن التفاهم المبدئي المبرم الأربعاء الماضي، بقدر ما يبشر بمشهد سياسي سوداني جديد، يقوم على إرساء حكم مدني وتفكيك آثار المرحلة الإخوانية، فإنه أيضا ينبئ بوجود إرادات كثيرة فاعلة في المشهد السوداني، ويشي أيضا بأن المشهد لا ينفتح فقط على المكون العسكري والمكون المدني الذي تقوده قوى الحرية والتغيير، بل ينفتح أيضا على قوى تتبنى رؤى أخرى تقف بين القوتين المشار إليهما، أو تحاول أن تفتك لنفسها موقعا في الهندسة السياسية الجديدة.

وما يمكن التقاطه أيضا من خلال هذا التفاهم، أن قوى الحرية والتغيير، تناضل منذ 25 أكتوبر 2021، (تاريخ إعلان عبد الفتاح البرهان إجراءاته الاستثنائية) من أجل فرض هدفين: الأول إرساء حكم مدني كامل بما يعنيه ذلك من إبعاد للمكون العسكري عن السلطة، أما الهدف الثاني فهو القطع النهائي مع مرحلة حكم عمر البشير، وإبعاد التنظيمات الإسلاموية عن المشهد السياسي. مهم التذكير هنا بأن حظر نشاط حزب المؤتمر الوطني في العام 2019، لم يعن اختفاء الإسلاميين من الساحة السياسية السودانية، بل إن العودة غير الرسمية لنشاطات لحزب المؤتمر الوطني تسارعت وتيرتها بعد إجراءات البرهان في أكتوبر 2021، ما عزز التوجسات الداخلية والإقليمية من عودة التيارات الإسلامية إلى صدارة المشهد، على مرأى ومسمع من الجيش.
هكذا يبدو المشهد السوداني حاملا لتعقيدات كثيرة، بعضها ناتج عن المرحلة الجديدة، بعد الثورة على حكم الإخوان، وبعضها الآخر مشتق من العقود السابقة. فقوى الحرية والتغيير، مثلا، واعية بأنها تكافح ضد جبهات كثيرة، فهي تحاول فرض حكم مدني ديمقراطي يعيد الجيش إلى ثكناته وإلى أدواره التقليدية، وأعينها متيقظة أيضا على إمكانية عودة الإسلاميين إلى المشهد، وهي لا تستبعد انحياز الإسلاميين إلى المكون العسكري حتى يضمنوا المزيد من التسرب واستعادة مكانتهم في المشهد السياسي.

وعلى ذلك فإن التفاهم المبدئي المبرم الأربعاء وبقدر ما يفتح آفاقا جديدة أمام مستقبل العملية السياسية في السودان، مدعوما من قوى دولية وإقليمية عديدة، فإنه أيضا يحمل بذور أزمات قادمة في صورة تواصل المواقف الرافضة للتفاهم من قبل قوى سياسية قدرت أنها ستقبع خارج الهندسة السياسية المقبلة التي يبشر بها هذا التفاهم.

صحيح أن بعض القوى الرافضة لهذا التفاهم تقدم مبررات وجيهة لرفضه من قبيل أن التسوية المرتقبة لا توفر الضمانات الكافية لعدم انقلاب المكون العسكري على تعهداته مرة أخرى، وان التفاهم الأخير لا يضمنُ تحقيق المطالب التي يرابط الشارع على المناداة بها مثل إرساء العدالة الانتقالية ومحاسبة قتلة ضحايا الثورة. ولكن المصداقية التي تحظى بها قوى الحرية والتغيير في الشارع السوداني يمكن أن تمثل دفعة إيجابية لتطوير هذا التفاهم المبدئي إلى اتفاق نهائي يرسي حكما مدنيا ويعيد العسكر إلى الثكنات ويكرس الإبعاد النهائي للإسلاميين، ويطلق عملية سياسية سوية تذهب بالسودان نحو التركيز على المشاكل الاقتصادية والتنموية.

ورغم تصاعد منسوب الرفض للتفاهم الأخير، من قبل قوى سياسية مختلفة، وعلى الرغم من وجاهة الانتقادات التي وجهها الحزب الشيوعي السوداني للتفاهم الذي اعتبر أن "هذا النوع من التسويات هو مؤامرة لقطع الطريق على الثورة"، إلا أن هذه التسوية المرتقبة تحمل بعض فرص النجاح انطلاقا من سببين، الأول هو تشتت القوى الثورية الرافضة لكل تعامل مع العسكر والتي تطرح بديل إسقاط النظام، أما السبب الثاني فهي أن هذا التفاهم كسب جمهورا مهما في الشارع، فضلا عن كونه يحظى بدعم الرباعية الدولية (الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات). على أن ذلك يفترض أيضا أن تذهب قوى الحرية والتغيير بمشروع التسوية إلى باقي المكونات السياسية والشعبية، حتى تضمن المزيد من التوافق حولها، ما يمكن أن يمثل مستقبل أداة ضغط قوية على المؤسسة العسكرية يمكن أن تكون مصدًا أمام أي إمكانية للنكوص بها.