الواقع أننا لا نحتكم إلى الكلمة إلّا لنغنّي، ليقيننا بعدم وجود ترجمان لشؤوننا لو غاب من دنيانا الغناء. فالغناء ترياق إحساسنا التراجيدي باغترابنا في واقع هذا الوجود. ولا أعرف شخصيّاً ما الذي كنت سأفعله بنفسي فيما لو انعدمت من الواقع الإنساني تميمة كالغناء. فاللحن (سواء أكان مجرد نغمة موسيقية، أم في حال استقام في صيغة أغنية) يبقى لقية وجودية لا تقارن بأيّة غنيمة. فاللحون يقيناً هي العزاء الذي قادنا إلى محاولة التعبير بأجناس الإبداع الأخرى، بدايةً بالشعر، ونهايةً بالتشكيل، سواء أكان لوحةً، أم نحتاً، أم معماراً. ولكن التحدّي سيهيمن على واقع الروائي ما لم يفلح في بثّ شجنه في إيقاع يستطيع أن يحاكي النغمة الموسيقية. مريد النثر أيضاً يهفو لأن يغنّي، ولكن هيهات أن يفلح إن لم يستعن بالإيقاع كأوّل عتبة في سلّم الحلم، الذي لن يكون هنا سوى الموسيقى.

فالرهان ليس على الحرف، ولكن على النّبع الجدير بأن يروي الظمأ. يروي ظمأ الروح الخالد إلى قطبٍ يستوطن الغيوب، وما يسوّقه الوَجد ليس سوى منزلة أولى في معراجٍ عصيّ لاسترضاء الوجدان. وما نسمّيه معزوفة وجدانية ما هو إلّا استعارة من الوَجْد. الوجد كشطحة. ليس شطح الرقص، ولكن شطح الطقس. شطح التحرير من وزرٍ ثقيل هو البدن، لارتياد بُعدٍ مفقود يحقق الحرية. يحقّق حرية الأبعاد القصوى.

ما ماهيّة الأبعاد القصوى؟ ماهيّة الأبعاد القصوى الحلول في رحاب الفردوس المفقود، ليكفّ عن البقاء مفقوداً، ليستعير البُعد المستعاد.

وهو ما يعني أن الفنّ كلّه يهفو، في الأساس، لاستبدال الرؤية بالرؤيا أو استبدال حضيض الطبيعة بوطن الألوهة، أي بلوغ المنزلة الأبعد منالاً، من المنزلة التي أهداها لنا أفلاطون، عندما أرجع منبع الموسيقى إلى طواف الأفلاك السماوية. فغاية العملية الإبداعيّة هي في كيفيّة هندسة العلاقة مع السماء، التي تلعب فيها حاسّة السمع دور بطولة، لأنها مركز الجاذبية في كل شأن ذي علاقة مع ربّة الإلهام: النبوءة! والدليل يتحفنا به نيتشه في «مولد التراجيديا من روح الموسيقى» حيث يورد إعتراف شيلّلر الذي يقول أن الوحي الشعري بالنسبة له يتنزّل في صوتٍ شبيه بطنين النحلة قبل أن يستقيم في أبيات. ولكن حاسّة السمع رأسمال اللحون في المرتبة الاولى، ثم ذخيرة الأشعار في المرتبة الثانية، وهو ما يعني غياب نصيب للنثر في هذه الغنيمة. فبأي حيلة يفلح فرسان مجال كالرواية في اقتناص معزوفة الأفلاك، والفوز بلُقية كالرؤى السماوية؟ نستطيع أن نستنجد بالعروة التي نصّبها أرسطو غاية لكل إبداع، وهي: الأسطورة، وعلى نحوٍ أدقّ: لغة هذه الجنيّة، بوصفها الوصيّ الأجدر في العلاقة مع السماء، تحديداً، مع: الألوهة. فميلاد الـ ميثوس في عالم حضورنا كان بشارة حلولنا في الروح، التي تُحيي، بعد اغترابنا الفجيع، في ظلمات الـ أيدوس، التي تُميت، بدليل أننا لم نهتدِ إلى ثالوث الحبّ والجمال والشعر إلّا بفضل بعثنا في الأسطورة.

فكل غنيمتنا مستعارة من محفل التاسوع. تاسوع ربّات الفنون، حيث يهيمن الحلم، المشفوع بالإنشاد، يقيناً من الأوصياء على حكمة الرقم التاسع في حساب الأعداد، الرديف للإستواء في حقّ جنين إعجازٍ، هو: الوجود!

لهذا السبب اعتنق قدماء المصريين دين التاسوع في حقّ محفل أربابهم أيضاً. هنا ينتصب أمام الروائي شبحٌ لئيم هو كيفية حقن عروق الحرف الميّت بشحنة ملفّقة من روح كل عضوٍ معتمد في محفل التاسوع الربوبي، بدايةً بالعرّابة الناطقة باسم ما نسمّيه تاريخاً، مروراً بالداهية الأخرى المفوّضة بلسان الترنيم الغنائي، ثم مروّضة المهزلة، تليها الوصيّة على خِصم المهزلة، وهو الشبح العبوس المتوّج بوسام المأساة، ثمّ الوصيّة على فنّ الشطح، تجاورها مغنية اللحون العاطفية، تنازعها ربّة الإنشاد الإلهيّ، لتنافسها أخرى تتغنّى بخفايا الأبعاد الفلكية، لتتوّج المحفل مريدة الأشعار الملحميّة.

كل هذه الحزمة من الأوتار الغيبيّة، شهادة براءة حتميّة في حقّ الجملة النثرية، لتسويق الحُجّة الوجودية.

ولكن ما لا يجب أن يُنسى هو دور النوتة الموسيقية، في صيغتها الكلاسيكية، المجبولة بروح المكان، في بُعديه البيئي والاجتماعي، بوصفه الوريث الشرعي لذاكرة الأمّة، مترجَماً في حرف ما نسمّيه فلكلوراً، يعبّر عن نشاط إنسان الواقع، في بُعده الدنيوي أو العملي.

فهل يكتفي سادن النثر بالحُجّة، دون الإستنجاد بفنٍّ حكيم آخر هو: التشكيل؟

التشكيل وصفة سحرية لإنكار الرؤيا، واحتفاءٌ صريحٌ بحقّ الرؤية، كي تدلي بشهادتها في محكمة واقعنا. وهو ما قد يعني أن الطينة هنا ليست كلها حرْفاً، لأن التجربة برهنت على قدرة دهاة هذا الفنّ على استئذان الـ ميثوس، باعتناق دين ربّات الفنون، باستزراع بذار هذه الجنيّة الأمينة، لاستخراج الكنز المستضمر، بالنفخ فيه من أنفاس الروح، لإحياء عظامٍ كانت، بمنطق البصمة الحرفية، رميماً. فعندما ننثر ذررنا النثرية في حقول الواقع، سوف نهفو لتلفيق الأجرام، بوسيطٍ عصيٍّ هو الكلمة، التي ستستميت في الحفر باللغة، لإنتاج أشكال لا تعترف باللسان ترجماناً، فلا نملك إلّا أن نستجير بكهنة التشكيل، للإستعانة بمواهبهم في عجن الطينة، ونقلها من محيطها المجسّد، إلى فردوس الحلم، وتصويرها تخييليّاً، لكي تؤدّي وظيفتها كشاهد عيان، يستطيع أن يقنع  مشاهداً يراقب المشهد من وراء حجاب، حجاب ملفّق، بالضرورة، من نسيج لغة. إنها مجازفة نقل حصيلةٍ لها حضور في واقع الرؤية، واستيعابها حلميّاً، قبل القفز بها إلى البُعد الضائع، لاستيداعها حرم المعبد، الذي لا يعترف بغير الرؤيا يقيناً. فالروائي على دين القدّيس الذي يلقّن الاجيال واجب الإحتكام إلى حجج الرؤيا، على حساب حجج الرؤية، لسببٍ بسيط هو حقيقة الرؤيا كقيمة أبدية، في مقابل حقيقة الرؤية، كغنيمة وقتيّة. ومبدع الأحجية المرويّة قطبٌ يبيح لنفسه العزف على هذين الوتين: وترٌ لا حضور له في واقع المكان هو: الموسيقى، ووتر يستعير حجّته من سلطة الطبيعة، ليستحضر بمشيئتها أجراماً معزّزة بروح الأحلام، مدمناً، بهذه التثنية، إثماً، شِركاً، ولكنه الشِّرْك الذي قُدّر له أن يكون في الصفقة ضرورة، وإلّا لما صار حجر الزاوية في استظهار كيانٍ هو، بكل المقاييس، كينونة!

فالرواية علمٌ آلى على نفسه أن يمارس ترجمة حتميّة، لتجربة عدميّة، يتماهى فيها الطيني بالروحي، الأرضي بالسماوي، الوقتي بالأبدي، الفاني عندما يتمرّد على باطل أباطيله، ليحقق في نفسه ذلك البعث، المدعو في لغتنا خلوداً.

فالقياس في تحديد قيمة الرواية رهين استثمار الينابيع، المستعارة من حليب الأمّهات في محفل الفنون، فلا يكتفي الروائي، لأنه سيغدو أيضاً القياس في تحديد معنى الرواية.