نشر الإعلام الأميركي تحليلات وتسريبات حول تحفّظ مؤسسات الدولة على هذه الزيارة، وفي مقدمها البيت الأبيض.

واعتبر الرئيس جو بايدن أن الزيارة "ليست فكرة جيدة"، لكن "مبادرة" بيلوسي لا يمكن إلا أن تكون واجهة للسياسة الأميركية الحالية ضد الصين.

وباتت الصين الهدف الاستراتيجي الأول للسياسة الخارجية الأميركية منذ الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، ويقيّ ذلك النهج أولويا متصاعدا في عهد الجمهوري دونالد ترامب مستمرا في حدّة أعراضه في عهد جو بايدن.

ولا تبتعد زيارة بيلوسي إلى تايوان عن وهج ما قاله بايدن في جولته الأسيوية في مايو من أن بلاده ملتزمة بالدفاع عن تايوان في حال تعرضها للغزو الصيني، على الرغم من تخفيف البيت الأبيض لاحقا من مقاصد موقف الرئيس الأميركي.

وتعمل واشنطن على تكثيف الضغوط على الصين في جنوب شرق آسيا ومنطقة الإندو-باسفيك.

وتنشط الدبلوماسية الأميركية لنسج التحالفات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية مع دول تلك المنطقة (تحالف كواد، تحالف العيون الخمس، تحالف أوكوس.. إلخ).

ولا تتردد القطع البحرية الأميركية (والغربية) في التواجد في مياه بحر الصين ومضيق تايوان والمياه الدولية في منطقة تعتبرها بكين مجال نفوذها الحيوي الكبير.

ولئن أخذت زيارة تايوان القسط الكبير من التغطية الإعلامية، لكن جولة بيلوسي شملت ‫اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا، بما يتكامل مع جولة بايدن ويتمم مراميها.‬

وسواء في مواقف بايدن ومناورات البنتاغون وأنشطة أجهزة المخابرات وورش الدبلوماسية أو التقدم بواجهات استراتيجية صادمة كزيارة بيلوسي إلى تايوان، فإن الولايات المتحدة تمارس، على الرغم من الانعطافة التي تسببها العامل الروسي في حرب أوكرانيا، أقصى درجات الحزم وأقسى الضغوط على بكين لضبط وردع ما تشكله الصين من أخطار استراتيجية على الولايات المتحدة خلال العقد المقبل.

تلعب واشنطن لعبة معقّدة وسريالية في علاقاتها مع الصين ومع قضية تايوان، حيث تعترف الولايات المتحدة بمبدأ "الصين الواحدة" بعد أن سحبت عام 1979 اعترافها بتايوان.

لكن واشنطن مع ذلك تدافع عن سيادة الجزيرة وترتبط، معها وفق "قانون العلاقة مع تايوان" الذي أقرّه الكونغرس في نفس العام، بنسق من العلاقات التجارية والمالية بحيث أن تايوان هي ثامن أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، والأخيرة ثاني أكبر شريك تجاري لتايوان. وقد بلغ الاستثمار التايواني في الولايات المتحدة ما يقرب من 137 مليار دولار عام 2020.

وأتاح قانون الكونغرس تطوير علاقات دفاعية لتزويد تايبيه بالأسلحة المتقدمة والقيام بمناورات عسكرية مشتركة مع جيشها.

ويكاد "الغموض الاستراتيجي" الذي تعتمده واشنطن حيال تايوان، أن يكّبل الولايات المتحدة في استراتيجيتها مع الصين ما يروّج في واشنطن لدعوات للشفافية والوضوح، لا سيما بشأن ما يمكن الذهاب إليه في حال نفّذ شي جين بينغ على رأس الحزب الشيوعي الصيني طموحه بفرض سيادة البرّ الصيني بالقوة على الجزيرة المعاندة.

ولقضية تايوان حيثيات محلية بعيدة عن الحسابات الدولية. خططت بكين لتطبيع تدريجي للعلاقة مع تايوان معوّلة على اتفاق أبرمته عام 1992 مع حزب الكومينتانغ الحاكم في تايوان آنذاك حول "الصين الواحدة".

لكن وصول الحزب الديمقراطي التقدمي المؤيد للاستقلال إلى السلطة في تايوان في يناير 2016 أطاح بخطط الصين. وبات التناقض بين البرّ الصيني والجزيرة أكثر حدّة في يناير 2020، حين فازت الرئيسة التايوانية تساي إنغ وين بولاية ثانية بسهولة، وهزم حزبهُا (الحزب الديمقراطي التقدمي) حزبَ الكومينتانغ في الانتخابات التشريعية وعزز هيمنته السياسية على تايوان.

لم ترتكب بيلوسي سابقة أميركية في تايوان إذ سبق لنيوت غرينغريش الجمهوري أن زار الجزيرة عام 1997 وكان حينها رئيسا لمجلس النواب أيضا، لكن الزمان تغير وباتت شروط وقواعد هذه الأيام أكثر حدّة واستفزازا لبكين، بحيث أن زيارة بيلوسي تحمل للحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم والرئيسة التايوانية جرعات دعم وتأييد عاليين تعوّل تايبيه على أن تؤسس لزيارات شخصيات غربية أخرى ترفع من دفاعات تايوان وتزيد من عوامل ردع الصين عن المغامرة في تايوان (وفد من البرلمان الأوروبي زار الجزيرة الخميس).

غير أن نظرية الردع قد تأتي بمفاعيل معاكسة متناسلة من درجة التحدي والاستفزاز التي تسببها مواقف واشنطن المتتالية. الزعيم الصيني شي جين بينغ الذي يطمح لتمدد زعامته على رأس البلاد وحزبها الحاكم، سيجد في تلك المواقف، بما في ذلك زيارة بيلوسي لتايوان، نيلا من مصداقيته وهيبة بلاده في التعامل مع التقدم الاستراتيجي الذي حققته واشنطن في آسيا وتحوّل العالم الغربي باتجاه الرؤية الأميركية بشأن الصين، على ما كشفت النصوص الجديدة لحلف شمال الأطلسي في قمته الأخيرة.

والأرجح أن ردّ فعل الصيني المفرط على زيارة بيلوسي لتايوان، بما في ذلك المناورات العسكرية حول تايوان، كان متوقعا بالنسبة لواشنطن ونجحت تلك الزيارة في استدراجه. ولئن تسعى الصين إلى التعبير عن قدرات الردع لديها، إلا أن إخراج مخالبها العسكرية سيحمل ماء إلى طاحونة واشنطن، لجهة دفع دول المنطقة إلى مزيد من التقارب والتحالف مع الولايات المتحدة، وصولا إلى جعل حضور المنظومة العسكرية الغربية عاديا طبيعيا ومطلوبا ومن ضرورات الحفاظ على التوازن في المنطقة.

والواضح أن الصراع بين واشنطن وبكين يلعب على مسألة الوقت والتوقيت. الصين ليست مستعدة لصدام عسكري كبير قد تكون أكثر استعدادا له بعد عقد أو عقدين. والصين غير مستعدة أن تخسر موقعها الاقتصادي الدولي طالما أنها ليست محصّنة ضد العقوبات الدولية المحتملة.

وفي المقابل فإن الولايات المتحدة تستطيع في هذه الأيام ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية وعسكرية على الصين قد لا تستطيعها بعد حين.

وداخل هامش المناورة الحقيقي الراهن والمتخيل المنتظر مستقبلا، تقيس بكين وواشنطن حساباتهما معولتان على الفنون الاستراتيجية في مراحل الكرّ وأزمنة الفرّ.

في الوقت والتوقيت 25 عاما بين زيارتي غرينغريش وبيلوسي لتايوان، ولكن لم تعد الصين على ما كانت عليه فيما تبدو الولايات المتحدة على ما هي عليه.