قد تفيدنا مفاهيم أفلاطون ونظريّتُه في النّفس وقِسْمتُه الأخيرةَ إلى قوًى ثلاث في فهم هذا الضّرب من السّياسات؛ فالسّياسةُ، على الحقيقة، فعلٌ من أفعال القوّة العاقلة لا القوّة الغضبيّة؛ هذه الخاصّة بالجند كما يقول أفلاطون، فكيف يستعير أهل السّياسة ما هو في حُكم مَلَكات غيرهم؟ كيف يتصرّفون في شؤون السّياسة تصرُّف الجُند في شؤون الحرب؟

على أنّ مؤسّسات الجُند الحديثة والمعاصرة (المؤسّسات العسكريّة) تقيم الدّليل، من طريقة عملها، على سيادة قيم العقلانيّة فيها: العقلانيّة في التّخطيط، في الحساب الدّقيق للاحتمالات، في الأداء العسكريّ، في التّنظيم التّراتبيّ للمسؤوليّات.. إلخ. إنّها تستعير من السّياسة عقلَها المفترَض، فكيف للسّياسة أن تغادر موقعها ومنطقها لتتشبّع بقوّةٍ أخرى غير عاقلة (= غضبيّة) حاصرها أهلُها (= الجيش) أنفسُهم وفرضوا عليها قيْد العقل؟ إنّ الأمر حقّاً يتعلّق بمفارقةٍ صارخة.

صناعة الأزمات، إذن، حرفةٌ يمتهنها سياسيّون يزوّرون معنى السّياسة. إذا كان من وظائف السّياسة أن تَحُلَّ ما يُعْقَد؛ أي أن تُنتج الحلول للمشكلات والأزمات التي تشتبك خيوطُها، في الدّاخل الوطنيّ أو في العلاقة بالمحيط الخارجيّ، فإنّها تصبح - بين أيدي هؤلاء السّياسيّين - مصْنعاً لإنتاج الأزمات؛ مجعولةً لنَقْضِ ما على السّياسة النّهوضُ بأمره، أي - بعبارة أدقّ - تصير مِعْوَلاً لهدْم السّياسة باسم السّياسة!

والسّياسةُ التي من هذا الجنس ليست خاصّةً بدولٍ بعينها، أو مجتمعات لا تستطيع أن تنجب نخباً متمرّسةً بالسّياسة، كما قد يُعتَقد؛ ولا هي من ثمرات فعْلِ أنظمةٍ سياسيّة عقائديّة أو إيديولوجيّة (اشتراكيّة، ليبراليّة، إسلاميّة، قوميّة شوفينيّة) حصراً؛ ولا هي خاصّة بمنظومةٍ من الدّول دون سواها (دول الجنوب، دول الغرب، دول شرق آسيا)، ولا هي تُفَسَّر بالمصادر الثّقافيّة أو الدّينيّة التي تصدُر عنها نُخبها...، وإنّما هي من طبيعة أفقيّة عابرة للأوطان والدُّول والثّقافات والمجموعات القوميّة، بحيث تجدُ تجلّياتٍ لها هنا وهناك؛ في هذه الدّولة وفي تلك، بل حتّى في الدّول التي قطعت شوطاً طويلاً في ترسيخ قيم العقلانيّة في حياتها السّياسيّة وفي تقاليد السّلطة فيها مثل دول الغرب.

قد يكون وراء جنوح نخبةٍ حاكمة لتوليد أزمات بيئةٌ مّا سياسيّة (= بيئةُ جِوار أو بيئة إقليميّة) تغري بذلك أو تستدرج إليه، كأنْ تكون بيئة نزاعٍ صامت على مشكلات حدودٍ موروثة عن حقبة استعماريّة سابقة لم تجد لها حلاًّ متوافَقاً عليه، فيُصَارُ إلى إحيائها من جديد وتوتير أجواء العلاقات السّياسيّة، فيما كان يمكن فضُّ الخلاف حولها باللّجوء إلى القانون الدّوليّ ومؤسّساته، أو إلى المنظّمات الإقليميّة وتقديم الأدلّة والشّواهد الموثّقَة على تابعيّة المناطق المتنازَع عليها إلى المطالِب بها.

وقد يكون وراءَهُ نزاع على حصص المياه من أنهار مشتركة، أو على حصصٍ في حقول نفطٍ أو غازٍ مشتركة: بريّة أو بحريّة، ثمّ يُحوَّل النّزاع الصّامت إلى حربٍ كلاميّة، أو تهديدٍ، أو تحشيدٍ عسكريّ فيما تَقْبَل المشكلات تلك معالجةً قانونيّة باللّجوء إلى التّحكيم الدّوليّ.

وقد لا يكون له سببٌ موضوعيّ من جنس هذه الأسباب فيبدو، حينها، سلوكاً عدائيّاً مجّانيّاً لا مبرِّر له. من ذلك جنوحُ نخبةٍ حاكمة للتّدخّل في شؤون بلدٍ مجاوِر أو من الإقليم، إمّا بدعوى دعْم قوى "التّغيير" و"الحريّة" فيه (وقد حصل الكثير من ذلك، مثلاً، في ما يسمّى "الرّبيع العربيّ")، أو باستقبال معارضي ذلك البلد ومؤسّساتهم وتقديم الملاذ الآمن لهم، وتمكينهم من العمل ضدّ نظامهم ومن الموارد الماديّة التي يحتاجونها.

أمّا في حالةٍ أخرى مختلفة عن السّوابق فقد يكون الوازع إلى افتعال مشكلاتٍ مع الخارج عاملٌ داخليٌّ صرف: التّغطيّة على مشكلاتٍ وأزمات في الدّاخل (بين النّظام القائم والمجتمع والمعارضة، أو بين قوًى متصارعة داخل النّظام)، من طريق تصديرها إلى الخارج، بغيةَ تخفيف حدّتها في الدّاخل وصرْف الانتباه إلى الخطر الخارجيّ، أو أملاً في توحيد المجتمع وراء نخبته في معركتها مع خصوم البلاد الخارجيّين.. إلخ.

الأمثلة عديدة على نوع الحالات التي يتمظهر فيها هذا المنزِع السّياسيّ المنساق وراء تصنيع المشكلات والأزمات والخوض فيها بلا هوادة. وهو منزِع ليس له من مصيرٍ إلاّ إلى نشر الفوضى وعدم الاستقرار في المناطق التي تجري فيها أفعالُه، ودقِّ الأسافين بين الشّعوب وبين الدّول والتّأسيس لمشكلات مزمنة بين أجيالها القادمة. إنّه منزِع خطير وشرِّير لأنّه يصدر عن سياسةٍ فاسدة.