هي ذاتها تحمل الخراب والصمود في آن معا. هي ذاتها يمكن أن تستغني عن نصفها الذي يتهاوى تدريجيا، ليبقى نصفها الآخر واقفا. ليس مهما كم سيقف.. وإلى أن يسقط يحلها ألف حلال.

فلبنان لطالما حمل تناقضين في بنيته، منها الإيجابي نوعا ما، كالتسويق لحرية التعبير والديمقراطية والانفتاح والسياحة، ومنها السلبي كالطائفية على حساب الوطن والمواطن، وتعايش الوعود بالإعمار والازدهار الاقتصادي وحفلات انتخاب ملكات الجمال مع مشروع "حزب الله" ومصادرته السيادة لصالح المحور الذي يديره وفرضه ثقافة الموت.. ولكن بكرامة.

وبينما يترك القمح يتعفن ويفسد ويتحول نارا، نجد من يؤجج النار بين اللبنانيين واللاجئين السوريين بشأن رغيف خبر غير متوفر، ويتطلب الحصول عليه الوقوف لساعات في طوابير ذل، مع الإيحاء بأن السوري يسرق حق اللبناني في الحصول على هذا الرغيف، مع ما يسببه مثل هذا الطرح من شحنات حقد وكره كفيلة بإشعال فتنة تذكرنا بواقع الحال مع اللاجئين الفلسطينيين عشية الحرب الأهلية.

فهذا الجزء الواقف من الصوامع يعطي زخما لمسؤولين لبنانيين أدمنوا فعل النكران، وتعاملوا مع الوقائع وكأن الأوضاع يمكن احتواءها واستثمارها ما دامت أجزاء من البلاد لم تتهاو إلى الآن. بالتالي يتهربون من مسؤولياتهم القاضية بمعالجة ما انهار وبالحؤول دون انهيار ما تبقى.

هؤلاء لم يحاولوا منذ جريمة تفجير مرفأ بيروت التي تحل ذكراها الثانية بعد ثلاثة أيام تدعيم الصوامع، وتركوا القمح المكدس فيها يتعفن ويتحول مادة قابلة للاشتعال، ولعبوا على وتر الزمن الكفيل بمحو جريمة القرن كما وصفها العالم بأسره، وعطلوا التحقيق لكشف المجرم، غير عابئين بمطالبات أهالي الضحايا كشف المرتكبين ومحاسبتهم.

وها هم اليوم يهللون في سرهم لانهيار الشاهد الصامت على جريمتهم، انطلاقا من مبدأ أنه يجب محو ساحة الجريمة منه، لعله يحمل في جوفه بعض الأدلة المزعجة لهم.

سنتان على التفجير الذي دمر نصف بيروت وحصد أرواح أبرياء، في حين أن العالمين بوجود أداة الجريمة في العنبر 12 لا يزالون أحرارا يرفضون المثول أمام القضاء، ويترشحون للانتخابات النيابية ويفوزون بمقاعد في البرلمان، ويشكلون من بينهم مجلسا أعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وفي هذا المجلس المجرم هو الحكم.

عامان على التفجير، وأحوال اللبنانيين من سيء إلى أسوء، إذ أظهرت أرقام مصرف لبنان عن نهاية النصف الأول من شهر يوليو، أن ما تبقى لديه من سيولة بالعملة الأجنبية يبلغ 10.08 مليار دولار، أي ما يوازي كلفة استيراد لمدة 10.8 أشهر قياسا على حجم الاستيراد في السنة الماضية، ما يعني أن انفجار المشكلة آت بلا ريب مع تسارع نفاد الاحتياطات.

ومع هذا، يواصل المسؤولون اللبنانيون فعل النكران، فيشترون جلد الدب ويتقاسمونه فيما بينهم قبل اصطياده، على ما تبين العنتريات الوهمية المرافقة لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية، الممهدة للبدء باستخراج الغاز والنفط.

يشغلون الرأي العام بسباق بين الدبلوماسية وعرض العضلات الميدانية لمصادرة النصر المبين، في حين يجمع العالمون بالأمور أن الصفقة تمت وتنازل هؤلاء عن حقوق لبنان مقابل تسويات رخيصة أجريت تحت الطاولة لتنظيف الصفحة والسمعة ورفع العقوبات التي وضعتها الولايات المتحدة بتهم فساد الذين شملتهم العقوبات، علَّهم يستعيدون الأحلام الضائعة ويجدون لطموحهم مرتكزا جديدا يقودهم إلى السلطة بعد تنازلات عن الثروة النفطية التي كان من شأنها أن توقف الانهيار وتصوِّب كفة الاقتصاد.

يشترون الوقت لعلهم يربحون ما حسبوا أنهم خسروه، وكأنها في سباق مع حلول الاستحقاق الرئاسي وطيّ صفحة أقل ما يقال فيها أنها قادت عربة البلاد العتيقة المتهالكة إلى جهنم بسرعة الصاروخ.

وحتى يحين موعد الاستحقاق لا يزال الانهيار عامرا في الديار..