استقرّ بي المقام في منطقة «بيرنر أوبرلاند» لعشرين عاما. كلها في الجبال المشرفة على بحيرة «تون»، الأرجوحة التي هدهدت روحا عبقريّة شعرية في مقام «هنري كلايسك»، ثم روحا عبقرية موسيقية في مقام «برامس»، ثمّ روحاً عبقرية روائية في مقام «روبرت فالتزر» . العشرة أعوام الأولى قضيتها معلّقاً في سفوح «هونيباخ» المطلّة على الجانب الشرقي للبحيرة، ثم عشرة أعوام أخرى في «غولديفيل» الأعلى موقعاً في شعفة الإمتداد الجبلي الشرقي، المحروث بعشرات الأنهار، المتدفّقة من الأعالي، لتصبّ في البحيرة، التي ينطلق منها نهر «آري»، عابراً سويسرا كلّها، إلى أن يجود بذخيرته المائية النقيّة، في حوض «بازل» حيث يستلقي المستودع السخيّ، المسكون بالصيت المجيد، مكوّناً نقطة انطلاق نهر. «الراين» الأسطوري، الذي نصّبته الأساطير ترجماناً للروح الجرمانيّة. فسويسرا هويّة مائية شعريّة، لأنها منبع أنهار أوروبا الوسطى كلّها، والمقام في قلب الألب سعادة، لأنه الأرومة التي تغذّي أمم الجوار بحاجتها من عنصر الوجود، فيكفي الأرومة في بُعدها المائيّ فخراً، أنشودة «هولدرلين» في حقّها عندما يتغنّى: «عسيرٌ أن يهجر المكان، ذلك الإنسان الذي أقام بجوار النبع».

ولكن منبع الأنهار ليس المجد الوحيد الذي تجود به الربوع الآسرة التي تطوّق بحيرة «تون». فهي الوطن الوحيد، من بين كل الأوطان الكثيرة التي عبرتها، الذي أبَى إلّا أن يتحفني بأطيار خرافيّة كالصقور. ففضولي للمثول في عالم هذا الطائر لا يعود الفضل فيه لقراءاتي وحدها، ولكن تحديداً إلى الأرومة ذاتها التي جاد عليها الشاعر بالمديح، بوصفها  الوتد في مغامرة الوجود، أي إلى زمن الطفولة، المجبول بروح الميثولوجيا: ميثولوجيا أُمّتي الصحراوية التي لم تملّ التغنّي بانتمائها إلى ملّة السماء، مثلها في ذلك مثل كل أمم العالم القديم، مثل قدماء المصريين، أو السومريين، أو العبرانيين: «لم يسبقنا إلى الأرض سوى الصقر، أو نبتة آفزو».

لقّنني الأشياخ، نقلا عن الأسلاف، هذه الوصيّة لتكون لنا تميمة تنير سبيل أبناء الجيل، كي لا ينسوا هويّتهم الضائعة في ملكوت السماء. فالصقر، بشرف الأسبقيّة للحلول في اليابسة، مخلوقٌ مؤلّهٌ، ونبتة «آفزو» الأسطورية عشبة سحرية، بسبب قدم عهدها بالحضور، كشاهد عيان على ميلاد الوجود، ولم تكن لتُستخدم في عمليات تحنيط الموتى تالياً إلّا لهذه الخصال الفلكيّة، المجبولة بالقدرة على تحقيق الخلود!

الصقر والنبتة، الحيوان والنبات، المبتدأ في معادلة البدء التي تترجم جدل الأزل بين الوجود والخلود، من الطبيعي أن تلعب دور البطولة في حياة الخليقة في حمّى توقها إلى العشبة التي تمحو الفناء، وتحقق للكائن الخلود. هذا الأزل، في بُعده كأرومة، أو فلنقل بصيغة دنيوية، مسقط الرأس، هو الذي عناه الشاعر عندما قال أنه الوتد الذي يعجز أن يتحرر من أسره كل من استمرأ المقام بجواره. والصقر شاهد هذا الأزل، وأمّة التكوين، الظامئة لاستطلاع معجزة هذا التكوين، لم تستنزل فيه القداسة إلّا لتستدرجه، كي يدلي بشهادته. شهادةٌ تبدأ بالإسم. فهو، في لغة البدء، «إيهدَر». وهو تركيبٌ من كلمتين: حرف الهاء، الدالّ في البدئية على: البيت، أو أي كيانٍ مؤهل لاحتواء كائن، أو جرم؛ ثم تلي كلمة: «در» الدالّة على: الحياة، لفصل على ترجمة للإسم تقول: المسكون بالحياة.

هذه صيغة مازالت تجري في لسان أهل الصحراء الكبرى، وتبدو سابقة على أسماء الصقر التالية حيث يرد في لغة بدئية أخرى كالمصرية القديمة بـ هور، التي ورثناها عبر اليونانية كـ «هوروس»، متوّجة ببصمة التدليل على الهوية الإسميّة في هذه اللغة. فإذا تساءلنا عن الإسم أجابتنا البدئية بمدلول مدجج بمفهوم جَسور هو: الحامي، أو الحارس، كما تعني في لغة أهل الصحراء الكبرى أيضاً، ليجري تحوير الإسم في العربية بـ«حورس» استبدالاً للهاء الحاميّة بحرف الحاء الساميّة، الحاء الذي لا وجود له في اللغات الحاميّة، وكل المفردات الحاملة لهذا الحرف هي أخطاء موروثة عن علماء المصريات بسبب جهلهم بأبجدية اللغات الحامية. ومنزلة الحامي، أو الحارس، التي استنزلت في حقّ هذا الطائر الأسطوري هي هوية ميثولوجية، مستعارة من مرجعيات التكوين. والدليل تتحفنا به اليونانية القديمة عندما تستخدمه تركيباً حميم العلاقة بالمفهوم السالف في لقب بطل الأبطال الأكثر ميثولوجيّةً من جلّ الأبطال كما هو الحال مع «هراقل»، أي «هيركوليس»، كما يرد في الأصل اليوناني، الذي يعني، في حال أخضعناه لعملية تفكيك، حامي الحِمَى، أو، حرفياً، حارس الوطن، أو حارس البلاد؛ لأن: هر، هي «هور»، و«أكال»، كناية عن المدينة، أو البلد، أو أي مقامٍ خاضع لرهان مكان.

ويبدو أن مراسم الإجلال التي استنزلها قدماء المصريين في حقّ هذا الطائر ما هي سوى نتيجة لهوية هذا الكائن السماوية: السماوية لا بسبب أسبقيّته في التخلّي عن الوطن السماوي، بالمبادرة للنزول إلى الأسافل، كما تتغنّى ميثولوجيا أهل الصحراء، وحسب، ولكن لأنه عملياً كائنٌ لا أرضيّ. لا أرضيّ ليس لأنه طير، ولكن لأنه الطائر الوحيد الذي لا يتنازل ليقيم في الأحاضيض، فيحيا محلّقا في الفضاء دوما، أو يقيم في أعشاشه معلقا في رؤوس أعالي الجبال، أي في برزخ منيع يقع بين السماء والأرض!

هذا الإصرار على التعالي، هذا الوفاء للفضاء اللا نهائي، هذا الشغف بالقمم، هو ترجمة لطبيعة أصيلة، أصلية، أزليّة، للإنتماء إلى الأرومة الضائعة، وتوق محموم لاستعادتها حرفياً بالحضور في المجال المفتوح على بوابة الوطن الضائع.

عن هذا الوطن أيضاً تتغنّى الأمم في أشعارها الشجنيّة. عن هذا الفقد أيضاً تنوح صبايا الصحراء كلّما استوى القمر بدراً، تترنّم الألسن بلحون «أساهغ» الخالدة، الموروثة خلفاً عن سلف، تعبيراً عن حرقة الفقد، وحنيناً للعَود المأمول، لأن أساهغ هو وَقفٌ، في منظومة اللحون السبعة، على الكوكب الذي كان يوماً مقام الملّة، الذي يرد في الميثولوجيا المصرية بإسم: أساهو، أي بالإسم ذاته، كإبدال شائع بين حرفي الغين والواو في اللغات الحامية. وكان من الطبيعي أن يستدعي المصريون أيضاً الصقر ليكون على واقعهم لا شاهداً، ولكن ليتبوّأ منزلة الوصيّ على عروشهم. فهو سليل أوزوريس من شقيقته إيزيس، ومن الطبيعي أن يرث صولجان الأب الذي لقى مصرعه على يد شقيقه شيث، ليغدو شعاراً للمُلك، تعتمده اللغات الثلاث (الهيروغليفية، والهيروطيقيّة والديموطيقيّة) علامةً فارقةً لمَلكٍ هو بالسليقة خليفة الألوهة في أرضٍ هي، بكل قياس «مزر» (مصر»، أي طليعته المسكونة، بوجهيها: القبلي والبحريّ.

فالصقر، بماهيّة الحارس، المكلّف برسالة الحماية، لا يكتفي باستعراض القوّة في طوافه عبر الفضاء اللا متناهي، ولكنه، بمنطق الميثولوجيا، بمنطق سلطان الـ «ميثوس»، حيث يتربّع تاسوع ربّات الفنون على عرش الكون، ليستعير سلطة تُشرف على الأسافل، على العالم، من موقع سماويّ، من موقع العلوّ، من موقع السموّ، الذي لن يعني هنا سوى موقع المسئولية الأخلاقية على مصير كل الكائنات، التي تبدو من علٍّ شقيّةً، عاجزةً، بلا حول ولا قوّة، تحترف ارتكاب الحماقات، ولا تتردّد في امتهان الآثام، في حقّ نفسها، ثمّ في حقّ الأغيار، فلا تبدو جديرةً بالشفقة وحسب، ولكنها تبدو في حاجة للساعد الذي يأخذ بيدها، ويجيرها من حمقها، ويحقق لها الحماية من نفسها؛ الحماية من النفس الأمّارة بالسوء!