وتعتاض بها عن بيئات أخرى إقليميّة أُغلِقت في وجهها وتعسَّر عليها وُلوجُها وقد يستمرّ، لزمنٍ طويلٍ، في التّعسُّر. وهي لا شكّ ذاهبةٌ - يوماً مّا - نحو سلوك هذا المنحى التّصحيحيّ لعلاقاتها بجوارها العربيّ؛ لأنّ منطق المصالح كفيل بأن يكون رائزاً في هذا الخيار الذي لا مهْرب لها منه.

ما مِن مقايضة سيكون على تركيا أن تجريها بين طموحها في الاندماج في المجال الأوروبيّ والعضويّة في اتّحاده الإقليميّ ومؤسّساته، وتوثيق علاقات التّعاون والشّراكة بالنّظام العربيّ في الوقت عينِه. ولكنّ عمليّةَ تقديرٍ عقلانيّة للإمكانات التي يفتحها الخياران تكفي لتقنع تركيا أنّ أفق الخيار الأوروبيّ منْسَدٌّ أمامها حتّى إشعارٍ آخر، وأنّ الالتفات إلى محيطها العربيّ وبناء أفضل العلاقات به، سيُسْتاَتَى منه ما لا حصْر له من المنافع الماديّة؛ فإلى إمكانيّات الاستثمار فيه وجلب الاستثمارات منه، وسوقه الواسعة... ثمّة مشتَرك تاريخيّ يؤسّس لأي علاقةٍ به ويحميها ويفتح لها أوسع الفرص هو: المشتَرك الدّينيّ- الثّقافيّ- الحضاريّ المعزَّز بالجوار الجغرافيّ وبالعلاقات التّاريخيّة العريقة التي جمعت بين العرب والأتراك منذ ستّمائة عام.

يمكن لتركيا أن تصبح، يوماً، عضواً في «الاتّحاد الأوروبيّ»، مثلما هي عضو في «منظّمة حلف شمال الأطلسيّ» - على ما يكتنف عضويّتها من مشكلات مع الولايات المتّحدة في ميدان التّسلّح- لكنّ ذلك ينبغي أن لا يكون حائلاً دون اغتنامها ما هو متاحٌ فعلاً في محيطها المباشر، أو أن يضع علاقاتها بدول الوطن العربيّ في مرتبة ثانويّة من اهتماماتها الاستراتيجيّة. وهي، حين ستحسم أمرها، وتُبدي الاستعداد والتّعاون مع هذا المحيط، لن تجد فيه مَن يرُدّ إقدامَها ذاك ردّاً سلبيّاً، حتّى على الرّغم من كلّ الأذى الذي أصاب جزءاً كبيراً من الوطن العربيّ من سياساتٍ تركيّة سابقة يُؤسَف لها.

على أنّ تركيا ستكون مطَالَبة من البلاد العربيّة كلِّها: حكوماتٍ ورأياً عامّاً، بأن تصحّح نظرتها إلى دورها الذي أرادته لنفسها في هذا الإقليم العربيّ، والذي لم يكن أحدٌ ليوافقَها عليه أو يرتضي السّكوت على سعيها الحثيث فيه. وأوّل ما عليها أن تُطَمْئِن المحيط العربيّ في شأنه هو الكفّ، تماماً، عن التّدخّل في شؤونه الدّاخليّة وأزماته تحت أيّ عنوانٍ سياسيّ، واللّواذ بموقف الحياد الذي تقتضيه علاقات حسن الجوار. ومن ذلك التّسليم بالوضع السّياسيّ القائم في البلاد العربيّة، وبشرعيّة الأنظمة والحكومات القائمة، واحترام السّيادات الوطنيّة والأمن القوميّ وحرمة شؤونها الدّاخليّة. وليس المطلوب، هنا، بالأمر الكثير الذي يفرض على تركيا تنازلات قاسية، بل كلّ المطلوب هو سلوك سياسة المعاملة بالمثل، وحسن الجوار والعلاقة الطّبيعيّة المجرّدة من كلّ الشّوائب. وستكون لمثل هذا التّصحيح نتائجه الإيجابيّة، قطعاً، على العلاقات العربيّة- التّركيّة في المرحلة القادمة، الأمر الذي سيفتح فصولاً جديدة من التّعاون البنّاء والتّفاهم الإقليميّ خدمةً للمصالح القوميّة العليا للأمّتين العربيّة والتّركيّة وللأمن الإقليميّ.

ومن غير أن نَنْكَأ جروح الماضي القريب، ولا أن ندقّق في ما إذا كانت جماعة «الإخوان المسلمين» هي التي استدرجتِ السّياسة التّركيّة إلى الولوغ في الدّاخل العربيّ وأزماته، أو إنّها هي نفسُها مَن توسَّل تلك الجماعة واتّخذها مطيّةً مراهناً على سقوط البلاد العربيّة في قبضتها، فإنّ الأهمّ من البحث في هذا هو التّنبيه إلى أنّ سياسات تركيا، في الأعوام العشرة الماضية، لم تفتح الباب أمام نفوذها في الجوار؛ فقد تبخّر «الإخوان» وأضرابُهم، وتَماسَك الوضعُ العربيّ في وجْه الهجمة الأصوليّة، فيما خسرت تركيا علاقاتها التّقليديّة بالأعمّ الأغلب من الدّول العربيّة. وليس من شكّ في أنّ تركيا ستستفيد من دروس هذه الخيبة في سعيها إلى إعادة النّظر في أسباب أزمة العلاقة في أفق تصحيحها وتجديد الصّلة بدول الوطن العربيّ وشعوبه.

تعرف تركيا، كما الدّولُ العربيّة، أنّه ما من مستحيلٍ في السّياسة، وأنّ ما أفسدتْهُ السّياسة لا يُصْلِحه إلاّ السّياسة؛ إذْ هي ممّا يُبْنى على المصالح، وخاصّةً حينما تجتمع هذه مع علاقات الجوار الإقليميّ والتّاريخيّ. لذلك وَقَع بذْلُ مجهودٍ متبادَل بين بعض الدّول العربيّة - مثل مصر والمملكة العربيّة السّعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة - وتركيا لطيّ صفحة الماضي وتحسين العلاقات وتشذيبها من شوائبها. وقد يتّسع نطاق ذلك التّصحيح مع دول أخرى لإنتاج حالٍ من التّعايش والتّعاون الإيجابيّ العربيّ- التّركيّ إذا نضجتِ الإرادات لبلوغ ذلك. في السّياسة تظلّ للجغرافيا وللتّاريخ أحكامٌ لا تَقْوى المعاندات على تعطيل مفاعيلها. وكم هي زاخرة علاقات العرب بتركيا بتلك الأحكام التي نحتاج، جميعاً: عرباً وأتراكاً، إلى تحكيمها. ما قامت لأوروبا المتّحدة قائمةً إلاّ حين أهالت التّراب على ماضي صراعاتها المأساويّة، واستقبلت غدها بروح التّعايش والتّعاون والتّضامُن والشّراكة، أي بكلّ تلك القيم التي تفرضها أحكامُ الجغرافيا والتّاريخ والمشترَك الإنسانيّ.