ويأتي ذلك بالنظر إلى الهوة الشاسعة بين مواقف ومطالب إيران من ناحية ومواقف بقية الأطراف المشاركة بشكل مباشر أو غير مباشر في المفاوضات في جولاتها السبع السابقة، فالجولة الأخيرة على سبيل المثال شهدت إصرار إيرانيا على رفع كافة العقوبات الأميركية والأوروبية عنها، كما أصرت على ضرورة حصولها على ضمانات بألا تلغي أي إدارة أميركية مقبلة الاتفاق النووي الجديد في حال التوصل إليه، بالإضافة إلى تمسكها بألا يكون برنامجها الصاروخي وأنشطتها الإقليمية المزعزعة للاستقرار ضمن الاتفاق الجديد، الأدهى من ذلك أن المقترحات الإيرانية في الجولة الأخيرة تضمنت تراجعا عما تم التشاور بشأنه والاتفاق عليه في الجولات الست الماضية وطالبت بإجراء تعديلات في بعض البنود التي تم الاتفاق عليها في الجولات السابقة، الأمر الذي يفهم معه أن الطرف الإيراني يلعب على مسألة كسب الوقت وإطالة أمد المفاوضات لأطول فترة ممكنة بهدف فرض أمر واقع يصعب تغييره على بقية أطراف المفاوضات.

ويعكس هذا استمرارية للنهج الإيراني في التعامل مع المفاوضات النووية منذ أن بدأت في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، الذي قال قبيل بدء الجولة الخامسة من المفاوضات، إن بلاده ستواصل مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي حتى التوصل إلى اتفاق نهائي، فيما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده وقتها إن بلاده لا تفكر في أي وقت بإنهاء مفاوضات فيينا إلا عندما يتم تأمين جميع مصالح الشعب الإيراني، وقتها أمكن تفسير ما ورد بالتقرير الربع سنوي للوكالة الدولية للطاقة الذرية بوجود آثار ليورانيوم مخصب في ثلاثة مواقع نووية إيرانية، وبأن "مخزون إيران من اليورانيوم المنخفض التخصيب بات يتجاوز بـ16 مرة الحد المسموح به بموجب الاتفاق الدولي الذي تم توقيعه عام "2015، وهو الأمر الذي تكرر مرة ثانية الأسبوع الماضي، عندما أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران زادت احتياطياتها من اليورانيوم المخصب مرة أخرى.

فالهدف إذن هو التفاوض من أجل التفاوض لا من أجل الوصول لاتفاق شامل وعادل ويراعي مخاوف جميع الأطراف لا مصالح طرف واحد، الهدف كسب الوقت لترسيخ أمر واقع وراء مفاوضات بلا جدول زمني ومحادثات لا يمكن توقع موعد انتهائها، هذا النهج التفاوضي الإيراني  الذي يعتمد على ثنائية كسب الوقت ورفع سقف المطالب إلى حدها الأقصى بدأت تدركه مؤخرا بقية أطراف المفاوضات رغم أنه كان واضحا من البداية،  وهذا ما تجلى في المواقف الأوربية التي كانت متفائلة من قبل بشكل غير مبرر  وتضغط بكل الطرق للإسراع في الوصول إلى اتفاق، لكن بعد الجولة الأخيرة بدا الفزع الأوروبي واضحا من كم المطالب التي تقدمت بها الحكومة الإيرانية الجديدة.

وهذا ما عكسه البيان الذي أصدره دبلوماسيون أوروبيون وصفوا الجولة الأخيرة من المفاوضات بـ"المحبطة والمقلقة"، وقالوا إن هذا الاستنتاج جاء نتيجة "التحليل الدقيق للمقترحات الإيرانية والتعديلات التي يطلبون إدخالها في نص ما تم التشاور بشأنه في الجولات الست الماضية"، مؤكدين أن إيران أدخلت "تعديلات جذرية" في مسودة نص الاتفاق، على نحو يعيد المفاوضات "خطوة إلى الوراء".

في الجولة الأخيرة من المفاوضات أكتسب النهج التفاوضي الإيراني صفة إضافية وهي الابتزاز السياسي الصريح، فبعد الابتزاز النووي المتعلق برفع القدرات النووية خلال الجولات الست الماضية لفرض أمر واقع على مسار التفاوض، شهدت الجولة الأولى التي يمثل إيران فيها وفد من قبل حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي ابتزاز سياسيا تجلى في تصريحات مساعد الرئيس الإيراني للشؤون البرلمانية محمد حسيني نشرتها وكالة إرنا الرسمية مساء السبت الماضي، "إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق في فيينا، فإن بلاده ستتوجه نحو الصين والهند لتحقيق مصالحها."

الطرف الأميركي بدروه أدرك حجم المناورات الإيرانية وأقر بها ربما لأول مرة بشكل صريح منذ وصول إدارة بايدن إلى سدة الحكم، وهو ما تجلى في تصريحات كثير من المسؤولين الأميركيين قبيل وأثناء وبعد جولة المفاوضات الأخيرة، فقبل أيام قليلة من بداية الجولة الأخيرة من المفاوضات حذر المبعوث الأميركي الخاص لشؤون إيران، روبرت مالي في تصريحات صحفية من أن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي اذا استغلت إيران الوقت في فيينا لتقترب أكثر من اللزوم من صنع قنبلة نووية، ثم عاد في تصريحات أخرى قبل المفاوضات بيومين ليقول "إذا كانت إيران تعتقد أن بإمكانها استغلال هذا الوقت لتعزز قوتها ثم تعود وتقول إنها تريد شيئا أفضل فلن ينجح ذلك وسنفعل وشركائنا كل ما لدينا لمنع حدوث ذلك".. وهذا ما حدث بالفعل في الجولة الأخيرة حين رفعت إيران من سقف مطالبها مرة أخرى وتراجعت عن كل ما تم الاتفاق عليه، وهو ما عكسته تصريحات مسؤول كبير بوزارة الخارجية الأمريكية أكد فيها أن طهران تراجعت عن كل الحلول الوسط التي قدمتها خلال المحادثات السابقة في العاصمة النمساوية، وأنها أخذت التنازلات التي قدمها الآخرون وطلبت المزيد في أحدث مقترحات طرحتها. مشيرا إلى أن الصين وروسيا فوجئتا بمدى تراجع الوفد الإيراني في المقترحات التي طرحت في محادثات الأسبوع الماضي. ورأى أن الوفد الإيراني جاء "بمقترحات مثلت تراجعا عن أي شيء، وعن أي حلول وسط عرضتها إيران في الجولات الست السابقة من المحادثات، وصادر جميع الحلول الوسط التي قدمها الآخرون والولايات المتحدة بشكل خاص". المسؤول الأمريكي أكد أن إدارة الرئيس جو بايدن لا تزال تسعى إلى العودة إلى الاتفاق النووي، لكنها في الوقت عينه "تستعد لعالم لا عودة فيه إلى هذا الاتفاق".

وبعد أن أيقنت إدارة بايدن مؤخرا عدم جدية إيران في المفاوضات، وبعد أن اعترفت ضمنيا أنها أساءت الحكم على الحالة المزاجية لطهران في بداية ولايتها يبقى السؤال المهم: هل إدارة بايدن جادة هذه المرة في تبني خيارات أخرى في التعامل مع إيران كما تدعي؟ أم أنها ستسمر في التعامل مع عدم جدية إيران وعدم واقعية مطالبها بتخبط وعدم جدية مماثلة؟ وفي ظل صعوبة وتكلفة ونتائج الخيار العسكري فهل يمكن أن تكون هناك حلولا وسطا تضمن مصالح كل الأطراف وتطمأن الجميع في عالم بلا اتفاق نووي؟