لإدراك مقدار الذي أُنجزته تشرين، تكفي مقارنة أوضاع خصوم الاحتجاج الرئيسيين قبل عام، بأوضاعهم اليوم.

قبل عام، كان الاحتجاج محاصراً بشتى أنواع التهديدات الميليشياوية بحيث فر بعض ناشطيه نحو إقليم كردستان العراق وخارج البلاد، وسط عجز حكومي واضح عن حمايتهم.

اليوم يعيش خصوم الاحتجاج الميليشياويون، الممثلون بالفصائل المسلحة التي انضوت سياسياً تحت قائمة الفتح الانتخابية، أزمتهم الأشد التي قد تقضي على وجودهم المسلح وتقصيهم عن مواقع التأثير السياسي.

السبب في ذلك هو انتخابات مبكرة طالب بها الاحتجاج التشريني في ظل قانون انتخابي جديد أصرت عليه تشرين.

ساهم تظافرُ الاثنين في إنتاج انتخابات نزيهة أطاحت بكتلة الفتح انتخابياً لم تستطع فصائلها المسلحة تغيير نتائجها. صمود مفوضية الانتخابات أمام الضغوط الكثيرة والقوية لأطراف فاعلة سياسياً وميليشياوياً ظاهرة جديدة في السياسة أنتجها ايضاً كفاح تشرين.

إذا تحولت خسارة الفتح الانتخابية إلى خسارة سياسية وتم نزع سلاح الفصائل وإعادة هيكلة الحشد على أسس مهنية، فسيكون البلد خطى كبيرة إلى الأمام عبر ضمان احتكار الدولة للسلاح. من المبكر الجزمُ أن هذا سيحصل، لكن على الأقل زخم الأشياء ذاهب بهذا الاتجاه.

لولا تشرين، لما كنا نشهد هذا الزخم على الأقل. لو ساهم التشرينيون ومؤيدوهم في الانتخابات الأخيرة على نحو واسع، لكان البلد بإزاء خريطة سياسية مختلفة تقصي الكثير من القوى التقليدية القديمة. لكن التعلم البطيء خير من عدم التعلم مطلقاً، وتشرين تتعلم…

إحدى إشكالات تشرين هي سوء فهم الكثير من التشرينيين لماهية حركة احتجاجهم المهمة التي أطلقوها. ثمة حسرة كبيرة لديهم بأنهم فشلوا، بأن حركتهم لم تكتمل، ولذلك السعي أو التمني الحثيث بينهم لإعادة إنتاج الحدث التشريني مرة اخرى لإكمال ما لم يكملوه في تشرين الأولى التي تبدو لهم مقطوعة. في الحقيقة، تقديرهم مغلوط على نحو فادح. كفعل احتجاجي، تشرين مكتملة ولا حاجة للإضافة اليها، بل لا يمكن اعادتها.

يكمن مصدر اللبس في الخلط بين أمرين مختلفين في حركة الاحتجاج. الأول هو تشرين-الحدث، فعلى مدى ستة أشهر عاصفة وحيوية، بين تشرين/أكتوبر 2019 ونهاية آذار/مارس 2020، صنع المحتجون حدثاً تاسيسياً وعملاقاً ووطنياً هو الأهم في تاريخ العراق الحديث، أهم من ثورة العشرين نفسها التي كانت عاملاً أساسياً في تشكيل الدولة العراقية الحديثة.

في التشكيل العفوي والشعبي لهذا الحدث التشريني تفاعلت أشياء كثيرة استثنائية وإنسانية: جرأة التضحية وحزن عوائل الضحايا والشجاعة اللافتة للمحتجين المختلطة بحب الحياة والخوف المشروع من الرصاص الحكومي، وقصص الصبر ومراوغة الخصوم الميليشياويين، والإصرار على حياة مقبلة أفضل، ومطالب الإصلاح المشروعة، والالتفاف الشعبي حول نبل الاحتجاج وأخلاقية أهدافه والدفاع عن المحتجين.

أنتج هذا التفاعل، المضغوط زمنياً، سردية وطنية عراقية مناقضة لسرديات أحزاب الطبقة السياسية التي هيمنت على القرار والموارد بعد 2003. في هذه السردية الوطنية، ذات الطابع الليبرالي المرتبط بالحرية واحترام الكرامة الإنسانية للعراقيين كمواطنين متساوين، وجد العراقيون أمكنةً لهم في صورة وطن مقبل، وعد به الاحتجاج، مختلف جذرياً عن وطن أحزاب الطبقة السياسية الفئوي والجائر. من هنا تعاطف العراقيين مع تشرين كحدث، بكل حرارته العاطفية وتمثله التلقائي للواقع الذي أنتج حساً جديداً وغير مسبوق للوطنية العراقية من خلال المجتمع وليس من خلال النخب السياسية كما كانت نسخ الوطنية العراقية السابقة.

ثم هناك تشرين-المشروع الهادف إلى إصلاح الدولة العراقية المعطوبة عميقاً كي تنتج الوطن المختلف والجديد الذي وعدت به تشرين-الحدث وضحت من أجله. تحتاج تشرين-المشروع الكثير من الوقت والتنظيم والجهد كي تنجح. كانت أولى إشارات النجاح الانتخابات النزيهة التي أطاحت بالخصوم وهم الأشرس والأقوى لتشرين. لكن ثمة الكثير الذي على تشرين-المشروع إنجازه. يتعلق هذا الكثير بإعادة هيكلة السياسة في العراق على أسس جديدة تربط سلوك الساسة بحاجات المجتمع وليس بمصالح أحزابهم. يعني هذا تصالح تشرين-الحدث مع السياسة والتخلي عن حس الطهرانية المعيق السائد بين التشرينيين الذي يستقذر العمل السياسي ويتجنبه ويصر على العمل الاحتجاجي سبيلاً وحيداً للإنجاز. لا يمكن إعادة هيكلة السياسة من دون الدخول فيها وإعادة تعريفها من الداخل. مشكلة معظم التشرينيين هي أنهم بارعون في الاحتجاج، المناسب لتشرين-الحدث، وضعفاء في السياسة، بل غالباً متعالون عليها. 

يحتاج المحتجون أن ينتجوا سياسة تشرينية، تليق بتشرين-الحدث، وتحويلها إلى مشروع سياسي ناجح وطويل الأمد. يتطلب هذا الأمر صياغة أجندة إصلاحية شاملة وطموحة والعمل عليها بشكل مضطرد تتضمن تشكيل حركات سياسية متنوعة تستلهم القيم التشرينية دون أن تدعي احتكارها أو تمثيلها.

من الخطأ الدعوة إلى تمثل تشرين بحركة سياسية واحدة وموحدة (هذا طريق يؤدي إلى قتل تشرين)، فتشرين تيار اجتماعي واسع في الحياة، وأفق أخلاقي عالٍ ومرن منتجٌ لتوجهات سياسية متنوعة تعكس تنوع التشرينيين وحاجات المجتمع.

ينبغي أن تتضمن الأجندة الإصلاحية لتشرين طيفاً واسعاً من الممارسات والأدوات اللازمة لصناعة التغيير الجذري والطويل الأمد، بينها التنظيم السياسي والحزبي، والتمثل في منظمات المجتمع المدني والدخول في التنظيمات المهنية والنقابية فضلاً عن تعبئة الرأي العام وتنظيم الاحتجاجات لأهداف إصلاحية محددة وواضحة (كما في حملة إنهاء الإفلات من العقاب)، وليس الاحتجاج ضد الظلم العام الذي أنجزته بنجاح تشرين-الحدث. التراكم التدريجي والمتواصل للنجاحات في سياقات مختلفة سيقود، عبر الزمن، إلى إنتاج الإصلاح الجذري المأمول.

للصحافي العراقي المعروف سرمد الطائي جملة يرددها كثيراً: "تشرين تفتي ويتبعها المُفتون".

رغم الطابع الديني المبالغ فيه في صوغ هذه الجملة، فإنها تمسك بدقة بحقيقة مهمة، ترتبط بالحضور المحوري للاحتجاج التشريني في حياة هذا البلد. خلاصة هذه الحقيقة هي أن لتشرين سلطة أخلاقية ووطنية لا يمكن لأي لاعب عراقي مؤثر أن يتجاوزها أو يلتف عليها او يتجاهلها دون أن يدفع ثمناً باهظاً لذلك في وقت ما (كما حصل مع الفصائل المسلحة التي خاصمت تشرين).

ميزان القوى العراقي اجتماعياً وأخلاقياً لصالح تشرين، ويحتاج التشرينيون أن يشتغلوا بحنكة وتنظيم الآن كي يحولوا ميزان القوى السياسي لصالح تشرين أيضاً.

يتطلب هذا مهارات جديدة منهم تتعلق بأهمية التنظيم وعقلنة الاندفاعات العاطفية والدخول في تفاصيل الأشياء بالكثير من الصبر والانضباط.