القصد، أن التقليد غالبا ما يكون "نسخة باهتة أقل جودة" مهما كانت البراعة في محاكاة الأصل. وتعلم الناس أن التأسي بالنموذج لا يكون بالتقليد بل بالابتكار مستلهمين ما حققه النموذج الأصلي. وهكذا حين بدأت الصين مثلا تطوير اقتصادها قبل عقود، تجاوزت بسرعة التقليد لتبتكر منتجاتها الخاصة – وإن كانت استفادت من كل الخبرات التي نقلتها إليها الشركات العالمية التي حولت مصانعها إلى الصين لتستفيد من الامتيازات الحكومية والعمالة قليلة الكلفة.

بمناسبة العيد الخمسين لتأسيس اتحاد الإمارات، والاستعداد للخمسين عاما القادمة، قال نائب رئيس الدولة ورئيس الوزراء حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد إنه ليس الهدف أن تكون الأول بل أن تكون النموذج. والحقيقة، أن الإمارات حققت ذلك إلى حد كبير في نصف القرن المنصرم وما عليها سوى ترسيخ النموذج وضمان استدامته بمواصلة الانجاز عبر الابتكار والجرأة في تحويل الأزمات إلى فرص وقبل كل شيء الاستثمار في البشر باعتبارهم من يصنعون كل هذا وأكثر.

أتذكر قبل أكثر من عقدين حين انتقلت للعمل في منطقة الخليج للمرة الأولى قادما من عاصمة أوروبية أعمل وأعيش بها أن دبي كانت تقريبا الاسم الذي يعرف به الناس في أوروبا منطقة الخليج كلها. لم تكن دبي كما هي الآن، بل كان بناء نموذجها الحالي في بداياته تقريبا، وكان كثيرون يتعجبون من أن ما تفعله يمكن أن يشكل أساسا للبناء عليه ويستمر. بل إن البعض في البداية وصف ذلك بالمغامرة، بالضبط كما حدث حين بدأت أبو ظبي تجربة اول مدينة خالية من الكربون مطلع هذا القرن. وانتهى التشكك والتعجب بأن أصبح النموذج مستهدفا عالميا حاليا. سواء من شكل التنمية المستدامة إلى أساليب مكافحة التغير المناخي.

في ذلك الوقت، بدأت دول أخرى في المنطقة وخارجها تحاول تقليد النموذج الإماراتي لكنها جاءت في أغلبها محاولات باهتة كنسخ الكربون الضعيفة. لم يكن ذلك بسبب الافتقار إلى القدرات والموارد في تلك الدول، إنما لتفرد النموذج الإماراتي الذي لم يعتمد على مصدر واحد كالثروة أو الموقع وإنما على مصادر متعددة أضيفت إليها الجرأة والابتكار. ما قد يصح في ابو ظبي ودبي والفجيرة مثلا، ربما لا يصلح نسخه كما هو في مدن أخرى حتى لو تشاركت معها طبيعة الموقع وامتداد التاريخ.

أما محاولة تقليد النموذج في بلدان خارج المنطقة فلا شك أنها لن تكون أكثر من نسخ باهتة تظل الإمارات متقدة عليها بنحو ربع قرن على الأقل. هذا ما لم تأخذ تلك الدول في الاعتبار خصوصياتها المتباينة وتحاول أن تبتكر ما تحاكي به النموذج دون أن تقلده على طريقة "نقل مسطرة" كما يقول المثل العامي.

كل ما سبق يعني من يمكن أن يتطلع إلى نموذج الإمارات، حتى لو غلف تطلعه بعض تعجب أو تشكك من باب الغيرة. أما القلة القليلة التي تتسم مواقفها بالعدائية لكل ما هو ناجح إنسانيا لأنها تتبنى أفكارا لا إنسانية تعبر عنها بالتطرف والعنصرية فتلك ستظل على ما هي عليه لأن قناعاتها تصيبها بالعمى العقلي إن جاز التعبير. ولأن النموذج الإماراتي يمزج بين استلهام تراثه القديم وأحدث ما وصل إليه البشر من ابتكار في إطار من التسامح الانساني، فهو لا يتأثر اطلاقا بكل تلك المقولات المغرضة ويتركها "تأكل أصحابها" بينما هو في طريق صعود مستمر لم يصل بعد إلى قمة منحناه من التطور.

تدخل الإمارات نصف القرن الجديد من عمر اتحادها وهي بالفعل في موقع النموذج لكثيرين حول العالم. لكن لأن البشرية لا تتوقف عن التطور والابتكار، فالحفاظ على وضع النموذج يتطلب جهدا أكبر لتبني على ما انجزت وتستمر في الريادة في مجالات نشاط البشر التي لم يطرقها احد من قبلك. لكن سجل ما تحقق في نصف القرن الأول من عمر الاتحاد يؤشر على أن ذلك هو المتوقع وربما أكثر منه أيضا. وما أهداف الخمسين عاما القادمة سوى الحد الأدنى مما يمكن أن تحققه الإمارات في العقود القادة، وربما في فترات أقصر مما خططت له.