أولئك الذين يرحلون لا يتألّمون. نحن من يتألّم، لأننا نخلفهم. لأننا نفقدهم، فنتألّم مراراً. نتألّم لأننا نبقى قيد الوجود. والوجود ألم. ثم نتألّم، لأننا، بغيابهم، نحن وحيدون، نحن المهجورون. نحن بفقدهم اليتامَى. وقصاصنا الألم، بسبب قبولنا البقاء من بعدهم.

يقتصّون منّا بسبب خيانتنا لهم، برفضنا مرافقتهم، فيصادرون منّا النصيب الأنبل من ذكرياتنا معهم؛ ذكرياتٌ ليست مجرد ذخيرةٍ في ملحمة زمننا الضائع معهم، ولكنها في الواقع حصيلة حضورنا برفقتهم، التي هي خزينة وجودنا معهم. خزينةٌ لا تقدّر بثمن، لأن الفحوى فيها حياة. حياة تغدو باغترابهم عن واقعنا قيمةً ضائعة، لنغترب نحن باغترابهم عنّا، لأننا نحن الأموات، وهم الأحياء، كل ما هنالك أننا نتوهّم البقاء قيدَ حياةٍ سلبوا بانسحابهم حُجّتها.

وها هو فارس آخر من ذخيرة ما يسمّيه أفلاطون الـ«أنا الثانية» يقرّر الانسحاب من واقع المهزلة، ليقينه بأن الألم الناجم عن الحضور قيد الوجود، لا تشتريه لذّة تعاطي الأحلام التي يستعبدنا بها الوجود. وكان من الطبيعي أن يختار رضوان رحاب الجنان، بديلاً لمسرح الأوهام، لأن لا خلاص بدون القبول بحريّة الأبعاد القصوى.

رضوان أبو شويشة سليل ورشفانة، الذي أقبل على طرابلس لتصطفيه هذه المدينة ليكون حميمها، ليكون درويشها، الناطق باسمها، الوصيّ على كنوزها، كعادة كل مدن العالم المسكونة بالعمق.

وعندما نقول «العمق» فهذا سيعني أنها نصّبته على مبدأ القِدمة فيها، فلا يعود صفيّ طرابلس، ولكنه روح «أويا»، أويا التي تعني في اللغة الليبيّة القديمة «الميلاد». ميلاد الكيان المجبول بالجمال، المشفوع بوجدان الصحراء، المفتون بسحر البحر، مستعيراً بهذه الخصال طينة المعبد. ورضوان هو سادن المعبد. وكم تخيّلته بهذه الهويّة طوال العقود الكثيرة، التي كنت أحلّ فيها ضيفاً في رحاب حاضرتنا، قادماً من منافي ما وراء الستار الحديدي، فلا يشفي شجون حنيني سوى وجود طيف رضوان في أزقّتها، مترجماً، في سعيه الدؤوب عبر أحيائها، ممارسةً طقسيّة، وحدها جديرة بأن تشفي الغليل. ويبدو أن عجز الرجل عن إدمان العواصم التي ارتادها بداية بمدن الأندلس، ونهايةً بمدن إيرلندا، مروراً بمدن بريطانيا، ليحجّ في كل مرّة إلى قدره، إلى حاضرة ميلاده، أويا، مستجدياً منها، الغفران، لأن في معزوفتها تسكن فتنة حوريات البحر اللائي اعتدت أن يستدرجن، إلى أحضانهنّ الشهيّة، المُريدين من أمثال الشقيّ أوليس، فيستسلم هو للإغواء، تماماً كما استسلم سلفه أوليس. وافتتان رضوان بكيان معبده هو ما حفّز فيه موهبة استنطاق الكيانات، فاستهوته كل كينونة، بدايةً بجماليّات الحجر، في هويّة شاهد القبر، ونهايةً بجنون سدنة معابد طبيعيّة كسحرة جبال آكوكاس، المهووسين بحفر وصاياهم على جدران الصلد.

ففي صحف منتصف ستينيات القرن الماضي بدأ رضوان رحلته في تأويل التحف البشرية، كتكوين مجبول بدلالة وجودية، من خلال عنوان عام هو: «شكل فنّي»، قبل أن تنتابه حمّى أخرى، هي السرد، لينازل القصّ عقوداً كاملة، قبل أن يستيقظ فيه الشجن الكامن في الجينات مع منتصف التسعينيات، ليعود إلى الفنّ التشكيلي من جديد.

والواقع أن رضوان، في شخصه، يقيم نموذج فنّي. يقيم نموذج تشكيلي. نموذج تشكيلي ثريّ. ولذا فهو حقّاً كينونة جماليّة، إلى جانب ماهيّته ككينونة أخلاقيّة. ويبدو أن هذه الروح العبقريّة، روح العفوية، روح الطفولة، الروح الشقيّة، هي التي بثّت فيه شفرة، هي أفيون كل الموسوسين، كل الحالمين، كل المجانين، وهي: البوهيميا!

البوهيميا هي أُمّ المسّ، سواء في بعده المبدع، أم في ماهيّته المميتة. فهي حورية تستطيع أن تقدح زند العبقرية، كما تستطيع أن تكتم أنفاس الموهبة بسلطان الحبّ. وليس مصادفةً أن يكون الرسول الذي قادني إلى رضوان أبو شويشة، أو قاده إليّ في منتصف ستّينيات القرن، هو طيفٌ أيضاً، مكبّلٌ ببصمة البوهيميا أيضاً، وهو جيلاني طريبشان، المفعم أيضاً بالشفافيّة، بالحساسيّة، بالطفولة الأبديّة، بشعريّة الروح، الأقوى حُجّةً من شعريّة النصّ. ويبدو أن سلطة هذه الشراكة بينهما في الخصال هي سبب البلبلة في علاقتهما. ففي حين يروق رضوان أن يتندّر بمسلك الدروشة في طبع جيلاني، يتعمّد جيلاني تقمّص دور الجلّاد، فيلسع رضوان بسياط سخريّة موجعة ليس لشفافيّة روح رضوان أن تتسامح معها كثيراً.

ولكن ما يجب الاعتراف به هو أن كليهما اختطّ بسيرته الدنيوية مشروع ظاهرة في تاريخ مسيرتنا الثقافية: ظاهرة استطاعت بموجبها تجربة الشخص أن تتفوّق على كفاءة النصّ، لتتحوّل بديلاً يكاد يلغي النصّ. وهو ما لم يكن ليحدث لولا سلطة الموقف النقدي من الوجود. ذلك أن البوهيميا هي نصّ الدرويش الذي لا يعنيه انتزاع الاعتراف بحقيقة النصّ، لأنه المخوّل تقليديّاً باستصدار الحكم في حقّ أيّ نصّ.

فالحكمة في لسانه نبوءة، والشطحة في مسلكه قصيدة، والسويداء في مزاجه ترتيلة، وغرابة أطواره أحجية تستلزم التأويل.

تجربة رضوان تطرح قضيّة نصيّة الشخص، أو الموهبة التي تتحوّل بها تجربة شخص، إلى نصّ، في مقابل شخصنة النصّ. فثمّة نصوص استطاعت أن تستوعب قيماً إنسانيّة كبرى، لتختزلها في النصّ، على نحوٍ يلغي، أو يكاد يلغي، دور المؤلف كشخص، لتغدو هي عنواناً بديلاً في سيرة المؤلّف، كأنها هي التي اختطّت الشخص، لتبدع منه النصّ. هذا في حين يحدث العكس، في ملحمة جدل النص والشخص، بحيث يسطو المؤلف، كشخص، على صلاحيات النصّ، ليصير هو، في نهاية المطاف، الفارس المؤهّل لاحتلال منزلة نصٍّ، يبقى مشروعاً مفتوحاً، قائماً، يظلّ ينتظر فارس الخلاص، الذي يختلسه الشخص، الذي يبقى بقوّة شخصيّته خارج السياق، ليتحوّل، بهذه القوّة، هو النصّ.

فـ سقراط يقيناً، هو النصّ، أمّا أفلاطون هو الشخص، الحامل لهويّة نصّ. أي أن أفلاطون هو المؤلّف الذي أبدع النصّ. وسقراط هو الرواية، التي اختطّتها موهبة عبقريّة هي أفلاطون. ولولا وجود أفلاطون، لما علمنا بوجود نموذج كسقراط، ولولا وجود سقراط، لما عرف التاريخ مؤلفاً باسم أفلاطون. ورضوان هو سيرةٌ لنصّ لم يُكتب، وينتظر أن تجود الأقدار يوماً برسول الخلاص، الذي سيكتب رواية باسم رضوان.

ولكن التجربة برهنت أن النصّ إذا لم يكن في حياة المؤلّف فدية، فلا أحد يضمن ألّا ينقلب لعنة. فوباء الجنس البشري، المدعو في لغتنا حسداً، يترصّد المؤلّف دوماً. ولمّا عدم الخصوم الحُجّة في إدانة النصّ، فإن سهام التُّهم سوف تتجه صوب شخص المؤلف، لسبب بسيط، وهو وجوده في المتناول. يكفي أنه قيد الوجود. وهو لهذا السبب مخلوقٌ عارٍ. مخلوق بلا حول ولا قوة، ويعدم الحيلة في الدفاع عن النفس بسليقته كبراءة. براءة لولاها لما أفلح في إنجاز معجزة نصّ. وليس له إلّا أن يختفي من خارطة الوجود إذا شاء أن ينجو من كيد الخصوم. من كيد الحسد الذي أفنَى خلقاً أكثر مما أفنته الحروب، كما يؤكّد التاريخ. هذا العجز في الدفاع عن النفس هو ما يحوّل شخص المؤلف إلى ضحيّة. إلى فدية، مادام التحدّي هو طبيعة في النصّ ليستعير التحدّي، في النزاع مع الحسد، حصانة. ولكنها الحصانة التي تنقلب شؤماً على الشخص، لأن الشخص، كمؤلّف نصّ، هو المستهدف، هو الخطيئة التي لا تغتفر. ألا يقال إن المجتمع يفعل كل ما بالوسع لكيلا يفلح مؤلف، أبدع نصّاً حقيقيّاً، أن يجرؤ على تكرار هذا العمل؟

المجتمع يفعل ذلك بفنون الاغواء بالطبع. بصنوف التكريم. بهالات المديح، في حين تمارس ملل الحسد مكيدتها بأجناس، النميمة، بحملات الإساءة، بالأكاذيب. وينجحون، ويا للعجب، في ذلك، لأن صيت الأكذوبة أقوى من حجّة الحقيقة. الأكذوبة حسناء لعوب دوماً، ولذا فهي ترياق محبّب لاستدراج الكلّ، فيخسر المؤلّف لأنه مشفوع بهويّة الشخص. بلعنة الشخص. في حين يُغَيّب النصّ. فيغترب النصّ. يغترب إلى أجل غير مسمّى. يغترب إلى حين تقضي المنيّة أمراً كان مفعولاً. لحظتها فقط يستيقظ النصّ من سباته ليتولّى الأمر، بالترافع عن مؤلف النصّ، ليشفع للشخص، ولكن ليس قبل فوات الأوان. ليس قبل غياب صاحب الشأن. ولهذا السبب يستعيد أولئك الذين رحلوا الاعتراف، الذي بخل به الجيل عليهم إبّان حضورهم في هوية الشخص. ألم يترنّم بول فاليري، ومن بعده هايدغر، بالحقيقة القائلة: «عندما يُعجز السفهاء النصّ، لا يجدوا ما يخفون به هزيمتهم سوى شنّ الهجوم على الشخص، الذي أبدع النصّ؟».

لهذا السبب يتحوّل النصّ بعبعاً في وجه أمّة الحلم أمثال رضوان أو جيلاني أو من شاكلهم. يتحوّل رهاباً. يتحوّل شَرَكاً يحيل على البوهيما. لتتولّى الأمر بالإنابة عن مشروع الحلم. لتغدو الروح الرسالية تحدّياً. تغدو شبحاً معادياً، ولمحاولة تحقيق هدنة يفرّ رضوان إلى الوراء. يرتدّ إلى التشكيل، الذي هجره منذ عقود، تلبيةً لنداء حمّى الوَجْد؛ برغم يقينه المسبق بأنه لن يشفي الغليل. إنه الحجّة الأخيرة في حملة الدفاع عن النفس. فإيثار الوقفة في البرزخ أيضاً ضرب أمان. هل الأمان من بطش الحسد؟ ربما الأمان مما هو أقوى حجّةً من تنّين الحسد: الأمان من القدر! لأن الاستهتار بالغيوب هو ما لا يغفره القدر.

فالموهبة بقدر ما هي ترياق، بقدر ما هي ورم أيضاً. فأي ضمان ألّا ينقلب السحر على الساحر، عندما يجرؤ هذا الساحر على بعث مارد كالحدس، من سبات بياته الشتوي في العدم؟ فاللجوء إلى القوارير، أو إلى بقيّة أجناس الإكسير، هو حيلة الأبرياء، حيلة الممسوسين، الموسوسين، للفرار من جحيم طاغية هو الحدس، الذي لم يعترف بغير النصّ شفيعاً، فلن يتردد أن يفتك بالشخص، في سبيل استعادة النصّ، وهو ما لن يحدث بدون التضحية بالشخص، لتحرير النصّ.

فسادن فرح، في مقام رضوان، وحده يستطيع أن يتباهى بطرح الفرح قرباناً على مذبح الحرية.

ولِمَ لا إذا كنّا قد آمنّا مع مَن آمن بأن الجنون أيضاً إبداع؟

ألم يكن الجنون قرين العبقرية منذ الأزل، ولا يفصل بينهما في مقامهما سوى ستار ليس له أن يعيق انتقال أحدهما للتماهي بالآخر، بين حين وآخر؟

فامتياز الدرويش هو في الانتماء إلى عالمٍ لا يمتّ بصلة لواقع عالمنا، مثله في ذلك مثل النصّ العبقري تماماً. وهو ما يستطيع بَطَلانا أن يعملا على تبنّيه، بوحيٍ من قاسم مشترك أعظم بينهما، وهو: الفطرة. أو بالأدقّ، النقاء. النّقاء المنزّه عن الصفقة. النقاء المنزّه عن دنسٍ هو النفع. وهو نقاء ليس عبوساً. نقاء ليس صارماً صرامة فرسان زهدٍ، مجبولين دوماً بالروح البروستانتيّة، كما حال أهل الرباط، ولكنّه نقاء مشفوع بروحٍ صحراويّة. نقاء الروح التي لا تعتنق الزهد إلّا موسوماً بنصيبٍ سخيّ من مرح. فـ رضوان، بالمقارنة مع سويدائيّة جيلاني، نفحة فرح. ويبدو أن هذا الهاجس، الذي كان في طبيعته أفيوناً، هو ما دعاه لأن يطلق على سليلته الأولى اسم «فرح»، فلا أنسى كيف كان يتغنّى بها كأنها ملاذٌ غيبيّ، فلم يجد حرجاً في أن يصطفيني لكي يشرّفني بتعليق صورتها، المحشورة في إطار أنيق، في غرفة نومي، في الفندق ببنغازي، أثناء انعقاد مؤتمر الأدباء مطلع  1973، ليوقظني عند الثالثة فجراً، مبرّراً هذا الإزعاج بحنينه للارتواء من سيماء «فرح وجوده»، كما يروقه أن يتندّر، مكرراً استخدام هذا الشفيع لمواصلة سهرته على حساب راحتي ليليّاً، لأضطرّ لطرده أخيراً، مشفوعاً بوصيّةٍ ظلّ يرددها بعدها دوماً: «خذ فرحك وارحل!». وهو المؤتمر الذي شهد مُلَحاً شهيّة بوحيٍ من شقاوته التقليديّة. فقد كان شريكاً في السهرة التي قرر فيها لفيف أدباء، مكوّن من طريبشان والمحروق والدنّاع وأعراب، أن يبثّوا روح المرح في شريان خطاب المؤتمرين لكسر شوكة الملل، القرينة لكل مؤتمر، فتآمروا في تأليف قصيدة هجاء في حقّ شيخ الأدباء علي المصراتي، استخدموا في أبياتها قاموس الشاعر علي صدقي عبد القادر، فكان رضوان هو المبادر باستنساخها وتوزيعها على المؤتمرين كمنشور سرّي، لتغدو طرفة هلّل لها صدقي عبد القادر، بقدر ما أثارت استياء المصراتي بوصفها حملة يستطيع الخصوم استغلالها للإساءة لمواقفه السياسية كعضو في برلمان الاتحاد مع مصر!

فرضوان الذي اعتاد أن يكون فارس المرح في كل جلسة، لا يملك إلّا أن ينتهز الفرصة لكي يلعب دور البطولة في استزراع أنشودة الفرح في مناخ كل مؤتمر، وهو الذي لم يؤمن يوماً بوجود فرق بين النصّ والشخص، لأن نَصّه ما هو إلّا الامتداد الحرفي شخصه، كما شخصه ليس سوى الترجمان المجازي لنصّه: ترجمان لنصّه الخبيء، لنصّه الغيبيّ، لنصّه المفقود، الذي يُعجز المنطق، فلا تعبّر عنه الكلمات، لسببٍ بسيط وهو أنه حقيقيّ. فليس لنا، للتعبير عن الحقيقة، عن حقيقتنا، إلّا أن نحتال، كأنْ نستجير بالإيماء، أو نلوذ بالصلاة.

ففي 1969 عاد من غزواته في أوروبا لينضمّ إلى محفلنا في جريدة «الثورة»، ليعيد بعودته الروح المفقودة إلى ما نصّبه في دنياه معبداً وهو: طرابلس. طرابلس في صيغة أسلافه الأوائل الذين لم يخطئوا عندما خلعوا عليها اسم «أويا»، أي «الميلاد» بلغتهم.

عاد رضوان الجنان إلى طرابلس حاملاً لنا في أعطافه المرح المفقود، عاد الطيف إلى واقع مدينة، تحيا بالتغيير في النظام السياسي تجربة جديدة، لم نكن ندري أنها تنذر بمخاض، سوف يتوّج باغتراب وشيك، ولكن ليس قبل أن ننعم بنصيب مرح، مترجم في شقاوات مواقفه. فعندما انعقدت جلسات ندوة الفكر الثوري، مطلع 1970 تولّى تغطية وقائع الندوة للجريدة. فكان يروقه أن يرصد ما يدور وراء الكواليس، ليكون هامشاً ممتعاً على حساب متن الوقائع الرسميّ المملّ، وهو ما جعل صادق النيهوم يستفهم في إحدى جلساتنا: «هل أنت مكلّف بتغطية الندوة، أم بتعريتها؟».

فالواقع أن مبدأ التعرية هو ما استهوى هذا السندباد الخالد منذ المهد. فالكشف، لا الحجب، فتنة مريد الحقيقة في واقع عالمٍ يأبَى إلّا أن يدمن الباطل، فلا يكتفي، ولكنه يتعمّد تسويقه كحقيقة. والدليل موهبته الفطرية في إدانة الزيف أينما وُجد، حتّى في حال ألحق الضرر بعلاقاته الاجتماعية. ففي عام 1974 انعقد أول مهرجان للشباب العربي في ربوع معشوقته، مسقط رأس الوجود: أويا! وكان أحد أعضاء اللجنة المشرفة على تنظيم هذه التظاهرة صديق لنا هو محمد الزنتاني، صاحب الفضل في تعيين رضوان صحفياً بالمؤسسة العامّة للصحافة عند تأسيسها في 1972، عندما كان مديراً بها، حيث استفهم عمر الحامدي عن انتماء رضوان العقائدي، في وقتٍ كانت فيه القناعة الفكرية قياساً يحدّد الموقف من أي فرد، فزكّاه الزنتاني، بعبارة «ليبرالي»، لكي يجيره من ألغام العقليّة القمعية السائدة، فكانت هذه الشهادة بمثابة جواز السفر في إجازة تعيين رضوان. فبماذا كافأه الدرويش الذي لم يعترف في حياته يوماً بوجود حسابات الربح والخسارة؟

هذا الإحسان لم يمنع رضوان من أن يهاجم في إحدى المقابلات التلفزيونية صاحب الإحسان، منتقداً نزعة التلفيق وتغليب المجاملات في اختيار لجنة مكوّنة من لفيف الصُلع، على حدّ تعبيره، في إيماءة واضحة لوجود الزنتاني بينهم بصلعته التقليدية، لرسم برنامج فعاليّة معنيّة بجيل الشباب! وقد اشتكى لي الرجل وقع الطعنة التي لم يتوقّعها من الإنسان الذي خاطر بإنقاذه بالأمس، برغم جهله بحقيقة انتماء رضوان السياسي، الذي لم يراهن يوماً على أي انتماء، سوى الانتماء إلى ملّة الفرح! فإذا كان اليسار يتعاطى الفرح فهو يساري، وإذا كان اليمين يتساهل في شأن الفرح، فهو يميني.

فالانتماء السياسي، أو الأيديولوجي، هو ما لا وجود له في يقين هذا الدرويش المرح، الذي يدين بدين الفرح، ولا يعترف بغير الفرح معبوداً، وإلّا لما كان رضوان رضواناً!

وأذكر كيف التأمنا بحضور رضوان في لندن منتصف سبعينيات القرن الماضي، في جلسة حضرها أحمد الفقيه وخليفة بازيليا وخليفة حسين مصطفى وبعض الإنجليز، لأروي لهم هذه الحادثة كطرفة تعبّر عن حقيقة رضوان، فنالت استحسان الجميع، سوى إنسانة إنجليزيّة كانت صديقة رضوان، لم تتردد في التعبير عن استهجانها لهذا الموقف، ربّما لأن حدسها أوحى لها بأن الإنسان القادر أن ينكر الإحسان على هذا النحو الموجع لن يصلح صديقاً، فلم يكن جواب درويش الزمان على هذا الاستهجان إلّا أن اكتفى بأن ردّد ضاحكاً: «المبدأ هو المبدأ».

المبدأ بالطبع هو الفرح، وكل فعل يخالف هذا الناموس فهو في نظره ترح. في نظره باطل. فروح الطفولة كانت قد حررته من أية حسابات أو قناعات أو أيديولوجيات، أو أي نوع من أورام هذا الوجود، التي صارت علّة شقاء الأغيار، وأجارته من الانتماء إلى غنائم هذا العالم. فهو طينة ملفّقة من حرية. حرية اعتاد أن يمارسها، دون أن يكون في حاجة لأن يتشدّق بها، أو يتساءل عن معناها. فهو ليس مريد حرية، ولكنه هو الحرية؛ وإلّا لما أدمن أفيونا مغترباً في واقع عالمنا، كما الحال مع: الفرح.