الدرس الأوروبي صباح الحرب العالمية الثانية كان مفيدا جدا في التدليل على وجاهة هذه المقاربة. فبعد أن وضعت الحرب أوزارها، أيقن الزعماء الأوروبيون أن بناء الاقتصاد الأوروبي، والتنافس في البناء والترميم والإعمار، يمثلُ مسارا بأهداف مزدوجة: تنافسٌ يسمح برفع أنقاض الحرب وإزالة غبار المعارك من الميادين من جهةٍ أولى، ويتيح توفير رادع قوي ومتين أمام إمكانية اندلاع حروب جديدة.

مكن ذلك التنافس الاقتصادي الأوروبي من تطوير اقتصادات الكثير من الدول الأوروبية، مثلما وفر أرضية فكرية وسياسية وقانونية لوحدة أوروبية في مختلف المجالات. بهذا المعنى، كان التنافس الخلاق المبني على تجاوز أحقاد الماضي، دافعا قويا نحو تحقيق نسب نمو كبيرة، بدأت وتحققت من تسابق كل دولة مع الأخرى في الصناعة والبناء والتطوير، وكان البحث العلمي، الذي يخدمُ الاقتصاد ويوفر له أرضياته العلمية والنظرية، خاضعا بدوره لهذا المنطق التنافسي. ومن ذلك مثلا أن دراجة الـ"فيسبا" الإيطالية التي ظهرت في العام 1946، ألهمت الكثير من دول أوروبا إلى ابتكار دراجات أخرى تحاول تجاوزها تقنيا وجماليا. وكانت قصة "فيسبا" مثالا يمكن تعميمه على العديد من الأمثلة الصناعية الأخرى التي عرفت طفرة وتنوعا في مختلف أنحاء أوروبا.

بعد عقود من الحرب العالمية الثانية، بدأ الكثير من دول العالم في التخلص من جلابيب السرديات الكبرى، والأفكار الطوباوية التي كانت تكبّل المسارات الاقتصادية والدبلوماسية لسياسات الدول، وأتاح ذلك الاقتراب شيئا فشيئا من عقلية تسيير الشركات، أي البحث عن النجاعة والأهداف الاقتصادية والتنموية، بدلا من التشبث بأفكار يسارية أو قومية أو إسلاموية.

في الظرفية العالمية الراهنة، وبعد أن تحول العالم بأسره - ومن ضمنه دول المنطقة - إلى قرية، اتضح أن المنافسة بين اقتصادات منطقة الشرق الأوسط غير مضرة ولا تدعو إلى القلق، ولا يمكن أن تؤدي بالضرورة إلى البغضاء، بل على العكس هي لصالح شعوب المنطقة ودولها، وهي إكسير وترياق لأوضاع اقتصادية صعبة تمر بها المجتمعات. يقول بيل غيتس عن التنافس: "سواءً كان ذلك في غوغل أو أبل أو البرمجيات الحرة، نحن لدينا منافسون رائعون وهذا يساعدنا على العمل". ويؤيد ستيف جوبز حديث غيتس أيضا بقوله: "إذا لم تكن تحب منافسيك، تعلم كيف تحبهم، وتثني عليهم، وتستفيد منهم، انتقد أعداءك بشكلٍ راقٍ وصريح، ولكن بأمانة".

تساعد المنافسة الاقتصادية على نشر الثروة، وخفض الأسعار، وتنويع الخيارات، وتعزيز إنتاجية الاقتصادات، وتوفير المزيد من خيارات التوظيف لشباب المنطقة، وهي تحدُّ أيضا من الاحتكارات التي تضرُّ بجودة المنتجات، وتدفع الشركات إلى تقديم منتجات أفضل بتكلفة أقل. لذلك فإن النظر إلى المنافسة بين اقتصادات المنطقة من منظور محدود لا يساعد في التطوير، فلا يمكن أن ننظر إلى دولة بمعزل عن أخرى، ولا شك أن التطور والتقدم والتحديث، وتقديم المنتجات والخدمات المدهشة في دولة ما سيجذب الآخرين إلى اللحاق والمنافسة، وبالتالي سينعكس على الجميع بالخير.

يوجدُ جانبٌ مهم في إشعال المنافسة بين اقتصادات المنطقة، وهو تحسين ظروف العمل والعمالة. فالدولة التي ستقدم خدمات أفضل للعمالة ستجذب شباب المنطقة، والاقتصاد الذي يقدم حوافزا مهمة للموظف سيزيد من إنتاجيته وسيحصل على أفضل العقول، وسيحد من هجرة العقول خارج المنطقة.

المنافسة بين الاقتصادات تقوي من عصب الابتكار وتعزز إمكانيات الارتقاء لدى المؤسسات في عالم متسارع، والضغط والتحدي من أجل المنافسة يفيد الاقتصادات ويقويها، ويحفزها ويمكنها من رصّ صفوفها للتقدم في سُلّم الاقتصادات المنافسة. كما أن وجود منافسين محليين وإقليميين، ومورّدين ومبتكرين إقليميين تجذبهم رائحة الفوز إقليميا، وقاعدة استهلاك واسعة لمنتجاتهم تحفزهم على الابتكار؛ كل ذلك يقوي بدوره من الاقتصادات ويزيدُها متانة، طالما أن كل ذلك يتم ضمن جو ينظم التنافس بقوانين ملزمة ومتقدمة. ولنتخذ مثال مجلس التعاون بين دول الخليج العربية، الذي يجب أن يتقدم إلى الأمام بأنظمة تنافس متطورة، تحولُ دون إمكانية اندلاع خلافات مستقبلية، وأن يتطور أداؤه إلى مجالات أرحب، صانعا بيئة قانونية تلزم الاقتصادات في المجلس بأن تمتثل لتنافس عادل ومشجع ومحفز.

حينما تخف وتيرة التنافس في منطقة الشرق الأوسط، وبين دوله واقتصاداته، يخف العمل على التطور والتقدم. فقد لاحظنا في أزمة كوفيد-19 أن الجهات المسؤولة تنافست في الأنظمة والإجراءات الهادفة إلى الحد من آثار انتشار الجائحة، والاجتهاد في البحث عن سبل حماية مواطنيها واقتصاداتها، استطاعت بنجاعة وبإدهاش أن تفوق دولا "متقدمة"، وأن تقدم ما لم تقدمه أنظمة يعتقد أنها أكثر تطورا. لذلك كان للتنافس بين الدول والجهات الرسمية تأثيرٌ كبيرٌ على إبراز القدرات الجبارة والمؤنسنة في مواجهة آثار الأزمة الصحية العالمية.

من يخشى المنافسة ويصنع جدرانا عالية، ويعتقد أن تطور الغير يسيء إليه، ويريد كل شيء في جو عدائي تجاه الآخرين هو من سيخسر في النهاية، لأن العقلية العدائية السلبية لن تصنع نجاحا يذكر، بل سوف تشيع جوا من الريبة التي لا يمكن أن تنتج سوى العطالة والعقم الاقتصادي. التنافس الاقتصادي هو روح خلاقة ومتسامحة، ومندفعة للارتقاء بجذبها المبدعين ورؤوس الأموال التي تبحث عن مجتمعات منتجة ومستقرة ومتسامحة، تعيش في كنف احترام القانون، لكي تطمئن على استثماراتها.

أنماط النجاح التنافسي يجب أن تُدرسَ بطرق علمية لا بأساليب عاطفية. ولكي ينجح أي اقتصاد ويصبح اقتصادا تنافسيا مهما، عليه أن يكون الأفضل في تكاليف العمالة، وأسعار الفائدة، وأسعار الصرف، ووفرة الحجم. فهذه هي عوامل النجاح الأساسية التي يسندها ما تحدثنا عنه سابقا. لا يمكن أن تثير دولة ما أزمة مع أخرى لأنها أقل خدمات، أو أضعف قوانين، أو أبعد عن الابتكار، أو أقل تنافسية، ما يمكن أن تفعله تلك الدولة هو أن تحدث ثورة في أنظمتها، وأن تسابق الريح للوصول إلى اقتصاد منتج بمقاييسها الذاتية الخاصة، وليس بمقاييس القص واللصق من الآخرين. كل دول الشرق الأوسط تمتلكُ القدرة على الإبداع في تنويع اقتصاداتها وكسب جاذبية رائعة لها، فالغضب والإجراءات التضييقية لن تحل المشكلة، بل إن التعاون وفهم السوق ومعرفة محاسن الآخر ومساوئه، ومزج كل ذلك بالمذاق المحلي للإبداع الاقتصادي سيوفرُ لأي اقتصاد في المنطقة كل مقومات التفوق والتقدم.

عديدٌ من الشركات وكبار المدراء يسيئون فهم طبيعة المنافسة والمهمة المناطة بهم من خلال التركيز على تحسين الأداء المالي، وطلب المساعدة الحكومية، والسعي إلى الاستقرار، وتقليل المخاطر من خلال التحالفات والاندماجات.

الحقائق التنافسية السائدة اليوم تتطلب الريادة. القادة الذين يؤمنون بالتغيير لابد أن يدفعوا مؤسساتهم ويحفزونها على الابتكار في عملية دؤوبة ومستمرة دون توقف. يجب أن يدرك القادة أهمية أوطانهم - كجزءٍ لا يتجزأ من نجاحهم التنافسي - ويعملون على تطويرها. والأهم من كل ذلك أن يدرك القادة الحاجة إلى الضغط والتحدي، وأن يكونوا على استعداد لتشجيع السياسات واللوائح الحكومية المناسبة - حتى لو كانت موجعة - لذلك يكتسبون لقب "رجال الدولة". القادة المستعدون للتضحية بالحياة السهلة من أجل أهداف كبرى، يوفرون في النهاية ميزات تنافسية مستدامة، ويحققون هدفا ساميا يعلي شأن أوطانهم. يجب أن يكون هدف دول المنطقة بكل مكوناتها الرسمية وغير الرسمية ليس البقاء على قيد الحياة فحسب، بل تحقيق القدرة التنافسية الدولية، وصنع الفرص لمواطنيها، والاندفاع بشجاعة نحو ميادين أرقى.

الثابت أن إيجابيات التنافس الاقتصادي أكثر من سلبياته، ومنافعه أكبر من أضراره، خاصة إذا وُضع التنافس بين الاقتصادات ضمن إطار واضح من التشريعات والقوانين، وهو ما من شأنه أن يزيد من نسق الابتكار والتجديد والتطوير، والبحث عن توفير أفضل الخدمات بأقل كلفة ممكنة.

الثابت أيضا أن مقولة يان بيترسون كوين (الحاكم العام لجزر الهند الشرقية الهولندية في القرن السابع عشر): "لا يمكن أن نحارب من دون أن نتاجر، ولا أن نتاجر من دون أن نحارب"، لم تعد صالحة في زمننا الراهن، حيث أصبح ممكنا أن نتاجر ونتبادل دون أن نحارب. أصبح ضروريا اليوم أن نتنافسَ من أجل مصالحنا، وأصبح بإمكاننا أن نصوغ علاقات دولية يسودها التنافس الخلّاق، دون أن يمثل ذلك ذريعة أو مدخلا لعلاقات عداوة أو توتر سياسي. نتنافس من أجل تطوير اقتصاداتنا، وفي ذلك مصلحة للشعوب، ومقدمة أساسية لتحسين مستوى حياة الناس.