وإذا كان الهدف الواضح هو مساعدة الأسطول الأسترالي على امتلاك غواصات نووية، فيما ستعتبره الصين تهديدا لها في المياه الإقليمية، فإن الأبعاد غير العسكرية والأمنية للشراكة أكبر وأوسع.

طبيعي أن يكون الاستنتاج المباشر أن الإدارة الأميركية الجديدة للرئيس الديمقراطي جو بايدن تحاول وضع وعودها موضع التطبيق، وفي مقدمتها مواجهة صعود النفوذ الصيني. لكن أيضا تعهد تلك الإدارة باستعادة الريادة الأميركية بالتعاون مع "الحلفاء" ضمن ما يسميه البعض في الخطاب السياسي والإعلامي الأميركي "التحالف الديمقراطي الغربي". نظريا، يشمل ذلك مزيدا من التنسيق بين واشنطن ودول مثل كندا وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية. لكن الأهم وفي القلب من ذلك التحالف الغربي، هو دول أوروبا وبريطانيا (باعتبار بريطانيا الآن خارج الاتحاد الأوروبي).

ولعل تلك الشراكة الأمنية/البحرية مع بريطانيا وأستراليا مقدمة للتوسع، ليس فقط في حلف غربي مواجه للنفوذ الصيني المتصاعد وإنما لاستعادة علاقات قوية بين أميركا الشمالية وأوروبا بالأساس. ومع أن البعض يرى أن فوضى الانسحاب من أفغانستان، للقوات الأميركية وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مؤشرا على إعادة أوروبا النظر في الريادة العسكرية والأمنية الأميركية فإن الواقع يجعل ما يتم تعويمه في الإعلام عن قوة أوروبية مشتركة لحماية مصالحها بعيدا عن المظلة الأميركية ضربا من الشطط.

لعلنا جميعا نتذكر أن محاولات فرنسا في السنوات الأخيرة اقناع ألمانيا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي بالمشاركة في قوة لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء في أفريقيا لم تثمر عن شيء. وكل الأفكار السابقة عن جناح عسكري للاتحاد الأوروبي تبخرت تماما. ليس فقط لأن هناك الناتو (الذي يضم أميركا ودول خارج الاتحاد) ولكن لأن أوروبا تدرك عميقا منذ الحرب العالمية الثانية أنها بحاجة للغطاء العسكري الأميركي. وجاءت إدارة بايدن بتوجه أقرب ما يكون لأيام الحرب البادرة بأن جعلت الصين وروسيا هدفا لاستراتيجيتها الخارجية.

لعل مبادرة الشراكة الأخيرة تكون مقدمة أيضا لتعاون أميركي/أوروبي أوسع من مجرد التحالفات العسكرية والأمنية. كما يمكن أن يترجم التوجه الأميركي الجديد في مجالات تنسيق السياسة الخارجية والمواقف من التطورات العالمية وكذلك وبشكل أهم في المجال الاقتصادي.

مطلع هذا القرن، غضب الأوربيون بشدة من تصريح وزير الدفاع في إدارة جورج بوش الابن حين وصف أوروبا بأنها "القارة العجوز". كان دونالد رمسفيلد يسخر بعد تباين المواقف الأوروبية من حروب أميركا الخارجية، خاصة غزو واحتلال العراق. واعتبر محللون ومعلقون وقتها أن تلك بداية حقبة جديدة، ينتهي فيها دور أوروبا تماما وينتقل "المركز" العالمي كاملا إلى واشنطن وعليه تقاس الدوائر في العالم من "محيط" و"أطراف".

صحيح أنه منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار نظام ثنائية القطب في العالم مع تفكك الاتحاد السوفيتي في الربع الأخير من القرن الماضي تراجع دور أوروبا كمركز ما بين موسكو وواشنطن، لكن ذلك الدور لم يملأه أحد بعد. حتى الحديث عن عالم "متعدد الأقطاب" في نظام عالمي جديد أو "عالم القطب الواحد" في واشنطن ظل مرهونا ببروز "نظام عالمي جديد" لم يتشكل حتى الآن. ويعني ذلك ببساطة أن "المركز" في السياسة الدولية يظل أوروبا، مهما تجاوزتها الصين مثلا اقتصاديا أو تراجع دورها السياسي ونفوذها خارج القارة.

ولا يقتصر الأمر على الجغرافيا، باعتبار أوروبا تاريخيا قلب الشمال العالمي ويحدد على أساس موقعها الجنوب، إضافة إلى الشرق والغرب (والشرق الأوسط الذي توصف به منطقتنا). بل إنه من ناحية الاقتصاد والسياسة لم ينه المركز تماما وإن تراجع دوره وضعف اقتصاديا بشكل نسبي أمام قوى صاعدة في الشرق والجنوب. هناك سبب غير مباشر يحافظ على وجود المركز الأوروبي، وهو أن كثيرا من القوى الصاعدة والدول النامية في الجنوب تفضل عدم "استفراد" الولايات المتحدة بكل خيوط السياسة الدولية. وهؤلاء يريدون الابقاء على أوروبا لاعبا، حتى لو كان نفوذه ضعيفا.

الآن، ربما نشهد عودة المركز لساحة السياسة الدولية وإن بشكل مختلف. ومع أن الدور الأميركي المحتمل في استعادة المركز يبدو واضحا تماما، إلا أن الأقطاب الأخرى وفي مقدمتها الصين تريد أيضا أن تظل أوروبا مركزا للغرب، إن لم يكن من باب تفضيل على ذلك على الانفراد الأميركي فيمكن أيضا أن يكون مجالا للدس والعمل على اضعاف موقف الغرب بتبايناته الأوروبية/الأميركية. ولعل حرص روسيا مثلا على علاقات قوية مع أوروبا يأتي في ذلك السياق أيضا كما هو الحال مع الصين.