كنّا آنذاك في ضيافة السفير الفرنسي بمقرّ إقامته بطرابلس مطلع 2004، عندما حلّ بن جلّون في ليبيا لأوّل مرّة، بدعوة من المركز الثقافي الفرنسي؛ فما كان منّي إلّا أن ساءلتُ نفسي، بالعبارة نفسها التي ساءل بها ماركيز نفسه عندما فرغ من قراءة «تحوّل» كافكا لأوّل مرة: «هل يُعقل أن يحدث هذا؟».

فما معنى أن نقرّر، مسبقاً، أن نكتب بهذه اللغة أو تلك، أو نرفض أن نكتب بهذه اللغة أو تلك؟ هل نحن مخوّلون بأن نختار لغاتنا، أم أن اللغات هي التي تختارنا؟ هل نحن من يملك الحقّ في اختيار ميلادنا، في اختيار وجودنا، أم أن ميلادنا، أو وجودنا، هو الذي يختارنا غصباً عنّا؛ مادمنا قد آمنّا بأن وجودنا رهين لغتنا؟ هل نحن من يتعلّم اللغة، أم أن اللغة هي التي تتعلّمنا رغم مشيئتنا، تماماً كما تتكلّمنا، بدل أن نكون نحن من يتكلّمها، كما يروق هايدغر أن يتغنّى؟

أقول هذا ليقيني بوجود فرق حاسم بين اللغة التي نستخدمها في نشاطنا الدنيوي كخطاب في العلاقة مع الآخر، وبين اللغة الأخرى، التي تدفعنا لكي نخوض مغامرة التعبير بها عن أحجية حضورنا في واقع وجودنا. اللغة الأولى لغة الحرف، لغة الدالّ، ولكن اللغة الثانية تلعب دور المدلول، دور الوسيط المدجّج بمؤهّلات مختلفة، ذات بُعدٍ روحيّ. إنه الفرق بين حميميّة اللغة الأمّ، وبين بُروْد اللغة المكتسبة، أي الفرق بين شعريّة اللغة الأمّ، ونثريّة اللغة المكتسبة. فلمّا كنّا ملفّقين من الطينة ذاتها، التي لفّقت أمومتنا، فنحن، بالطبيعة، معجونون من الحجّة ذاتها التي عجنت لغتنا.

فيوم أتحفني بن جلّون بهذا الإعتراف، تذكّرت وصيّة صديق آخر، هو الفقيد صادق النيهوم، الذي حثّني يوماً على أستخدام اللغة الروسيّة في الكتابة، بدل العربية، مادامت العربية، في تجربتي، أيضاً لغة مكتسبة، ولا تنتمي إلى عروة الأمومة الوثقى، ليقينه بأن العربية تبقى الجواد الخاسر في رهان الإنتشار، إذا ما قورنت بلغة أوروبية ذات وزنٍ مرجعيّ كالروسية، لأجد نفسي مضطرّاً لأن أطرح على نفسي سؤالاً آخر: «هل نحن، عندما نكتب، معنيّون حقّاً بما نسمّيه انتشاراً؟».

يخيّل لي أن غياب الرهان على الإنتشار هو السبب السحري الذي دفع طاهر بن جلّون لأن يستهجن، في بداية حياته الأدبيّة، أن يكتب بلغة مكتسبة كالفرنسيّة، لأن خوض مغامرة كهذه ضربٌ من صفقة تفوح من أعطافها رائحة النفع! ليس النفع في بُعده الحرفيّ، في بعده التجاري، ولكن النفع في مفهومة الأدبيّ. في مفهومه الإبداعيّ.

سلّمت بهذه القناعة إلى اليوم الذي قرأت في إحدى الموسوعات اللغوية، تشخيصاً للغة الفرنسيّة توصف فيه بـ «الرومانسية»، من دون كل اللغات، لأستنكر: أية لغة في عالمنا ليست رومانسيّة؟ أيعقل أن تحتكر لغة ما خصلة شعرية كالرومانسية، لتختنق بقيّة اللغات بغصّة غياب الروح الرومانسية؟

فالواقع أن كلّ لغات الأمم الرومانسيّة. ليست رومانسيّة وحسب، ولكنها شعرية أيضاً. حتى لغات من يروقنا أن نسمّيهم همجاً تتمتّع بروح رومانسيّة، بل تغتنم روحاً شعرية. يُعيّر أبو التاريخ هيرودوت لغة بعض القبائل، فيشبّهها بأصوات الوطاويط، كبرهان على الطبيعة الهمجيّة، في وقت لا أرى في رطانة الوطاويط أية نغمة همجيّة، لأن أصوات كل أجناس الطير ذات نغمة موسيقية باستثناء، ربّما، نعيق الغربان، أو نعيب البوم!

يروق الخبثاء أن يضعوا تصنيفاً ماكراً لأكثر لغات أوروبّا هيمنةً على الواقع، فيقولون أن الإسبانية خُلقت لمخاطبة الآلهة، والفرنسيّة لمخاطبة النساء، والألمانية لمخاطبة الأعداء!

وأحسب أن اختيار الإسبانية لمهمّة جسيمة كمخاطبة الأرباب، حُسنَ ظنٍّ يجانبه الصواب، لم يكن لينال منّا اعترافاً لولا حميميّة الصلة بين الإسبانيّة واللاتينيّة. فاللاتينيّة هي الأجدر في الواقع بأن تتولّى شرف الخطاب الإلهيّ. أمّا الفرنسيّة فهي الأكثر حظّاً حقاً في نيل شرف مخاطبة ملّة رومانسيّة بالفطرة كالنساء بسبب النزعة الموسيقية. فإذا احتكمنا إلى الحقيقة فلن نزكّي الألمانيّة لمنزلة اللسان الأنسب لمخاطبة الأعداء، لأن النفور من هذه اللغة العبقريّة ما هو إلّا نتيجة لضعف بقيّة الألسن في النطق بالسواكن، سيّما في تلك الكلمات التي تتلاصق فيها السواكن خانقةً سلطة الأحرف الصائتة، التي لم يختلقها دهاة الأنام إلّا من باب التوق الفطري للتغنّي بالخطاب ملحوناً، وأيضاً لتيسير الفصل بين سواكنٍ، كانت في الأصل كلمات كاملة، والصوائت في البُنْيَة مجرد سفير نغم. و«كوندلياك» لم يخطيء عندما شدّد على وجوب معاملة ما نسوّقه في لغاتنا اليوم ككلمات باعتباره، في الأصل، جملاً كاملة، وليست مجرّد كلمات؛ وهو ما سيعني أن الكلمة إذا كانت جملة، فإنها بُنْية مركّبة من عدّة كلمات، وما نعامله كسواكن في الكلمة الواحدة هو، فعليّاً، كلمات كاملة، محشورة بين أوتار معزوفة ملفّقة من صوائت لا دور لها في الفحوى، ولكنها تلبّي نداء الجوع إلى الغناء، إلى الموسيقى، إلى الروح الإنشادية، التي كانت منذ الأزل نقطة ضعف المخلوق البشري في نزاله مع واقعٍ نثريّ؛ ليس ركيكاً وحسب، ولكنه، بكل المقاييس، جارح، طارد، معادٍٍ للروح الظامئة للإرتواء من ينابيع المعزوفة، المعزوفة المشفوعة بالسموّ، المشفوعة بالإلهام الربوبي، لأن في نداء الوتر، في سطوة المعزوفة الموسيقية، فقط، تسكن وصيّة الأرباب!

وعلّ شغف اللاتينيّة بالصوائت في الكلمات، هو نتيجة للظمأ الخالد لالتقاط صوت الألوهة في الخطاب، لترثه الإسبانية، الأشدّ عداء من كل اللغات لكل ما متّ بصلة للسواكن، بحيث نستطيع أن نجزم، أن الإسباني على استعداد لأن يضحّي بلسانه كاملاً كي لا يُجبَر على النطق بكلمة يتلاحق، أو يتلاصق، فيها حرفان ساكنان على التوالي. وهو ما يعجز اللسان الإسباني في تعلّم لغة فذّة كالألمانية، التي لا تجود بتلاحق حرفين ساكنين متتاليين فقط، ولكنها على استعداد لأن تجود بكلمة تصطفّ فيها ثلاثة سواكن، بل أحياناً، أربعة، مبرهنةً بذلك على انتمائها إلى روح إنسانٍ باسل، يستميت في حشد سواكنٍ، في زمنٍ كانت فيه، هذه السواكن، شواهد على أمرٍ جلل هو: الحرية! ليست حرية التعبير، ولكنها حرية الوجود. وعلّ أكبر برهان على هذه النزعة في الإنسان الألماني هو عبقريّته في تحقيق معجزتين بهذه الروح البطولية: معجزة تطويع اللغة لكي تعبّر، بالفلسفة، عن الحقيقة، ومعجزة تطويع روح اللغة لكي تعبّر عن التوق إلى الله بالموسيقى: الفلسفة الألمانيّة التي كشفت لنا معنى الأخلاق في قلب الإنسان، وأعارتنا نعمة سماع معزوفة الأفلاك في قلب السماء!

إنها ملحمة الاستكشاف التي استطاع بها عرّاب العقل البشري «عمانويل كانط» أن يكشف بها لنا عن الإكتشاف الأعظم شأناً من اكتشاف القارّة الأمريكيّة، لأنه الوديعة التي استخلفها الله في لغزٍ هو الإنسان، كما الحال مع عمل العقل في بُعْده الصريح، ليحقق للإنسانية، بهذه الأعجوبة، ما لم تحقّقه لها الثورة الفرنسيّة، بل وكل ثورات العالم. هذا في حين حقق عرّاب الروح البشرية، بيتهوفن، المبتلَى بغياب السمع، فإذا به يستنطق حاسته السادسة، حاسّة الحدس، ليترجم لنا، بسلطان الألحان، ما غاب عنّا، نحن أهل السّمع، كلِم الله في السيمفونية.

بالإحتكام إلى لغة الفلسفة نحلّ أضيافاً على حرم العقل، حيث تهيمن الحقيقة؛ وبالإحتكام إلى لغة الموسيقى نحلّ أضيافاً على ملكوت الروح، حيث يهيمن الله.

 2 ـ اللغات المنسيّة

أعوام الدراسة في معهد غوركي لآداب العالم استضفنا في الصف يوماً، معلّماً عليماً برطانة ستّ وعشرين أمّة، أقبل ليلقّننا دروساً في مادّة «الترجمة الأدبيّة»، ليقوم بإبطال مفعول حجّتنا، نحن الطلبة الأجانب، الذين اعتادوا أن يتحجّجوا بعقبة هي حداثة العهد باللغة الروسية، لتكون لنا شفيعاً في تقديم امتحانات نهاية السنة الدراسية، لأنه المعلّم الوحيد الذي يتيح لنا فرصة التخاطب بلغاتنا الأموميّة، ليقينه بأنها لن تفلت من شَرَك حصيلته الأسطورية! وكم تعجّب عندما قمتُ، تلبيةً لنداء هوى ماكر، بمخاطبته بلساني الليبي القديم، المتداول إلى اليوم في واقع أمّة الملثّمين، لأن ما لم يخطر بباله هو أن تخذله مواهبه، التي مكّنته من إتقان اللغة العربية، فينسى أن الهوية الوطنيّة قد تخضع لمشيئة السلطة السياسية، ولكنها ليست بالضرورة هي الهوية الثقافية، التي تستعير منها اللغة أرصدتها. فليبيا، مثلها مثل بلدانٍ كثيرة كإسبانيا وسويسرا والهند، بل وكحال الإمبراطورية السوفييتية نفسها، وثيقة كالجنسيّة ليست دليلاً على الإنتماء اللغوي، ولكنها مجرّد وعاء يحوي ذخيرة ثريّة باللغات، المستعملة من قبل أعراق أخرى، وليس لليبيا أن تكون استثناءً، وهي التي استوعبت، عبر تاريخها التليد، أمماً شتّى، طاب لها المقام في رحابها المضيافة منذ القدم، وتباهت بالإنتماء إلى وطنها، دون أن تتخلّى عن هويّتها الثقافية، أو أن تحاول كتم أنفاس التنوّع، بخنق أصوات الرطانات الأخرى.

لم أكن في حاجة بالطبع لأن اذكّر المعلّم الأسطوري بما لقّنه لي منهج المعهد، منذ السنة الأولى لالتحاقي به، في مادّة «علم اللغات»، التي تغنّت بحقيقة ثراء وطنٍ ذي شأن عظيم كليبيا القديمة، فجادت بحزمة لغات، تفرّعت من اللغة الأمّ، لتكوّن مجموعات لغوية عُرفت في المصادر الأوروبية باسم «اللغات البربريّة»، المنتمية لعائلة لغوية مجيدة هي اللغة الحاميّة، التي أنجبت المصرية القديمة، والأمهريّة، وغيرهما، فلم تكتفِ، ولكن روح هذه اللغة أبت إلّا أن تفيض على أمّ الحكمة (اليونان) بذخائر نعمِها الروحية، فأنعمت على إمامة الحكمة بأعظم ما في الوجود وهو: الإيمان، مترجماً في محافل آلهتها، وديانتها، وعصب ثقافتها الدنيوية والدينية، كما ردّد أبو التاريخ هيرودوت في متون الكتاب الرابع المعنون بـ «ملبومينا» ربّة التراجيدية في الميثولوجيا الإغريقيّة. فإذا اعترف العقل اليوناني الرائد لليبيا بهذه الافضال، فبأيّ حقٍّ نستنكر اليوم أهليّة لغتها في تأسيس المفاهيم الدينية والوجودية، كما بيّنّا في موسوعتنا «بيان في لغة اللاهوت»؟

٣ـ الإغواء

مثير للفضول حقّاً أن يعترض سبيلنا، في مغامرة اللغة، إنسان ملتبس بالتجربة، كما هو ملتبسٌ بالموهبة، في مقام صمويل بكيت، الملقّب بـ«رائد أدب العبث»، الذي تنكّر لطينة لغة هي بمثابة أمّ، وآثر أن يتعاطى، في إبداعه، لغة أجنبيّة هي الفرنسيّة، ربّما انتقاماً من اللغة الانجليزية جراء قمعها للغته الأصلية، وهي الإيرلندية، برغم أنه صرّح، عندما سُئِلَ عن السبب، بميزة الفرنسيّة في القدرة على التعبير عن الأفكار، وهو ما لم تحققه الإنجليزية، التي تطرح الأفكار قرباناً على مذبح اللغة، أو على أسلوب المعالجة في اللغة. وهو ما يمكن أن يصلح حجّة في سيرة بن جلّون والخطيب في انتصارهما للغة مكتسبة كالفرنسيّة، على حساب لغة عبقريّة غنيّة، وفوق ذلك ذات ماهيّة أموميّة، كالعربيّة. فالعربيّة حقّاً تستدرج. العربيّة تتمتّع حقّاً بروح الاغواء الذي يقود إلى الشطط، فترفرف رايات البيان اللغوي، ليسطو الشطح الشعريّ على الواقع الفكري، لينهب الغنيمة الرؤيوية من فلك الوحي الحدَسيّ. ولا أنسى كيف كانت غنيمة كـالصفة تستهويني في هذه اللغة المكتسبة، التي اختارتني يوماً، لأكون أحد مريديها، لأجد في الإحتكام إلى التوصيف رأسمال حقيقي. فالوصف حقّاً يستدرج. هو حقّاً إغواء بلا منازع. لأن التوصيف وحده يرتوي من الجود بالأنفاس، النابعة من أعماق السؤال، الذي يسكننا، فلا نهتدي إلى حيلة للبوح بعلاقتنا الأكثر حميميّة بواقع الأُحجية، ما لم تهرع الصفة لنجدتنا. ولكن الزلل يكمن في الغلوّ. يكمن في المبالغة في استخدام التوصيف، بسبب طبيعته كفارس إغواء. ماذا نفعل إذا كانت حكمة الوجود هي التي قضت بعدم وجود خلاص في واقعٍ، الإغواء فيه دوماً ترياق مميت؟ هل كنت سأنجو من شَرَك الإغواء فيما لو استجبت لوصيّة صديقي النيهوم، فاستجرت بلغة أجنبيّة كالروسيّة طلباً للتوازن المأمول على طريقة «بيكيت» أو بن جلّون؟

هل عدلٌ أن نحرم الإغواء التصريح بحجّته؟

حجّة الإغواء في أنه يَعِدُ بما لا يقاس. يعد بالحرية. يعد بحريّة الأبعاد القصوى. ولهذا السبب هو مميت، مميتٌ لأن الحريّة لا وجود لها إلّا في الموت!

 4 ـ الخلاص

الرهان في شأن اللغة ليس في هويّة اللغة، سواء أكانت أموميّة أم أجنبيّة. الرهان في اللغة ليس في فتنة اللغة. ولكن الرهان حقّاً في ما استخفى في اللغة من مواهب. الرهان في اللغة يسكن اللغة الأخرى، الأبعد منالاً، التي تتستّر عليها أية لغة. الرهان في روح اللغة: قيمة أية لغة إنّما تسري في عروق روح هذه اللغة، والإهتداء إلى خباياها هو الضمان الوحيد للإستمتاع بلذّة اللغة، والبرهان الأخير على حضورنا في اللغة، بقطع النظر عن جنس اللغة.

باعتناق دين هذا البعد في اللغة، باعتناق دين هذه الروح في اللغة، في أيّة لغة، نحقّق الخلاص في اللغة. نحقّق الحرية في اللغة.