فالصحراء هي الوطن الوحيد الذي يتنكّر لماهيّة الوطن بوصفه الوطن الذي لا يبخل بالحرية في حدودها القصوى. في حدودها الأقسى.

فهو، بهذه الخصال يحقق منزلة اغتراب. فردوس اغتراب، ربّما لعلّة مدهشة هي غياب ما تراه الأوطان العمرانية رأسمال وجودها، كما الحال مع: النظام. النظام في بُعده الحرفيّ، في بعده التقليدي، المترجم في حزمة علاقات: علاقة اجتماعية، وأخرى سياسيّة، وثالثة نفعيّة (اقتصادية). أي كل ما متّ بصلة للمنظومة المرجعيّة التي تتغنّى بها أدبيّات الحياة الحضرية، وتنصّبها في نشاطها الدنيوي قدس أقداس. ولكن فضيلة الصحراء في قدرتها على تحريرنا من أشراك العلاقة، برغم أنها لا تحررنا من الدَّين الأخلاقي. بل النظام الأخلاقي هو القيمة التي يراهن عليها الوطن الصحراوي. نستطيع أن نسمّي هذا النظام عُرفاً، أو ناموساً، أو وصايا أسلاف، ولكنه يبقى الحَكَم الذي ترفض العقلية الصحراوية الاستهانة به، أو التجديف في حقّه. فلسان حال الصحراء يخاطب السلالة قائلاً: «انطلق في الأرض أينما شئت، تحرّر كيفما شئت، انزل أي وطنٍ شئت، ضِع ما شاءت لك الأقدار أن تضيع، ولكن احترس أن تتخلّى عن وصايا السلف!».

يستجيب السليل للنداء فينطلق حقاً. يقطع الصحراء سعياً. يسرح في بيداء الأبد، مُهدهداً في الوجدان تميمة الخلاص، ولا يتوقّف حتى عندما تفضي التخوم إلى أوطان الأغراب، كل ما عليه أن يعيه في تيهه هو الحقيقة التي تقول: «الأهمّ من الوطن الذي نسكنه، هو الوطن الذي يسكننا».

فما سوف يجيره من وطأة الإحساس بالزمن، الجالب لكلّ شقوة، هو الإحساس، في أوطان الغرباء، بغياب الانتماء! فالإحساس بالاغتراب حقّاً وجعٌ. الإحساس بالاغتراب ضياعٌ حقاً، ولكنه الضياع المقدّس. هو الضياع الأقدس، ولو لم يكن الأمر كذلك لما تغنّى الأنبياء والرسل والقدّيسون بوجوب الاحتفاء بملل الغرباء، لأنهم ليسوا، في الواقع، سوى أطياف، ليسوا سوى ملائكةٍ تتنكّر في أجرام أنام.

فما يخفّف من وزر الحنين هو الإحساس الأسطوري باكتساب هويّة الطيف. ما يهوّن الإحساس التراجيدي بالعزلة هو الإحساس بالانتماء إلى ماهيّة الضيف. فالمغترب وحده يملك الحقّ في أن يتباهى باحتكار هوية الضيف. المغترب وحده ضيفٌ أزليّ. الغريب الذي حلّ في الديار يوماً وحده صاحب الامتياز في اعتناق دين الضيف. المغترب وحده ضيفٌ مدلّل، لأنه وحده ضيفُ الله! ولأنه ضيف الألوهة فهو معصومٌ من المسئولية الوجودية التي طوّقت بها الطبيعة الإنسانية عنق كل مَن ارتضى لنفسه المقام في عالم الأنام.

ماذا يعني أن تحيا في وطنٍ، العلاقات فيه كلّها شبكة أشراك، دون أن تضطرّ لأن تخلع مسوح الهالة الإلهيّة، وتنزل للإدلاء بالدّلو في أوحال الحضيض؟

ذاك سيعني أنك معفيٌّ بحكم العادة. ذاك سوف يعني أنّك منزّهٌ دون أن تدري. ذاك سوف يعني أنّك منزّلٌ تنزيلاً بمشيئة الفرمان الأسمى. ذاك سوف يعني أنّك حققت مُحالاً اسمه: حرية الأبعاد القصوى!

ولكن المفارقة الفاجعة هي أنك، بتحقيقك لحرية الُمحال، قد قبلتَ، دون أن تدري، بمصير الضحيّة!

لأن ما هو الإنسان، عندما يفقد الإحساس بالانتماء إلى الأوطان، إن لم يكن مجرد قربانٍ يدبّ على قدمين؟

فحرية المحال فردوسٌ حقّاً، ولكن غياب الوطن، في الصفقة، يكلّف غالياً: يكلّف مِيْتةً، يكلّف اعتناق المنيّةِ ديناً!