من حيث هُم مَن اهتدوا إلى التّوافق بينهم فتعاقدوا على تأسيس المجتمع السّياسيّ (= فلسفة العقد الاجتماعيّ)، أو أن تكون حقوقُهم وحرّياتهم وصوْنُها جوهرَ وظيفة الدّولة (= الفلسفة اللّيبراليّة). هُم، في الحاليْن، الأساسُ في تكوين الاجتماع السّياسيّ ونظامِ اشتغاله، والنّيْلُ من الفرد أو انتهاكُ حقوقه ليس، في مثل هذه الحال، مجرّد خَرْقٍ لقوانين نظامٍ يحتلّ الفرد مكانةً رئيسةً فيه، بل قد يصبح إيذاناً بتهديد ذلك النّظام بالتّقويض التّام.

تعرّضت هذه النّظرة التّبجيليّة إلى الفرد - وقد سادت في القرن الثّامن عشر- إلى نقدٍ حادّ، منذ مطلع القرن التّاسع عشر، ضمن نقدٍ إجماليّ لفلسفة الأنوار أغرى به، إلى حدٍّ، نجاحُ الثّورة الفرنسيّة وما كشفت عنه من ديناميّات فاعلة تتجاوز الفرد. ولقد كان هيغل، ثمّ بعده ماركس، من أوائل من شنّوا هذا الهجوم النّقديّ على فلسفة القرن الثّامن عشر اللّيبراليّة وميثولوجيا الفرد الخَلاّق، مركز النّظام الاجتماعيّ، فيها. ومع أنّ نقد هيغل وماركس لم يتطابقا، ولا كان الحامل عليه واحداً أو المنطلقُ واحداً، إلاّ أنّ نتائجَه واحدة: زحزحة مركزيّة الفرد في المجتمع وفي نظام الدّولة.
ليستِ الدّولةُ منتوجَ أفرادٍ، في نظر هيغل، وإنّما هؤلاء من منتوجات الدّولة. الكُلّيّ، الذي تمثّله الدّولة، هو الذي يحدّد الجزئيّ الذي هو الفرد وليس العكس. والدّولة تجسيدٌ للعقل الكليّ الجامع وليس تمثيلاً لإرادات جزئيّة (فرديّة)، والذّاتيّة الفرديّة لا تتحدّد بنفسها ولا تتحقّق إلاّ في الكليّة الموضوعيّة العامّة التي تمثّلها الدّولة. وشأنُ الفرد هنا، عند هيغل، شأن المجتمع المدنيّ (= الذي هو، عنده، مجتمع المصالح الخاصّة في مقابل مجتمع المصالح العامّة الذي هو الدّولة)؛ فالمجتمع المدني نفسُه جزئيّة تنتمي إلى الكليّة (الدّولة)، ولكنّه تلك الجزئيّة التي تتحقّق فيها ذاتيّةُ الفرد شكلاً من التّحقُّق محدوداً. أمّا تحقُّقها الكامل، كذاتية، فلا يكون إلاّ في الدّولة ومن طريقها. ومع أنّ فلسفة هيغل تجريديّة إلى حدّ بعيد، إلاّ أنّها تقول، في هذا المعرض، شيئاً بسيطاً: للفرد حقوق وحريّات، ولكنّ هذه لا تتحقّق له إلاّ بما هو عضوٌ منتَمٍ إلى الدّولة. إنّ الدّولة هي من يحقّق له تلك الحقوق و، بالتالي، هي مَن يَصنع فرديّته: أي تصنع كيانه كفرد يتمتّع بالحريّة وبالحقوق المدنيّة.
ومع أنّ هيغل يعتبر حريّة الفرد مقدّساً من مقدّسات الدّولة، إلاّ أنّها عنده ليست أكثر من حقيقة تتولّد من خروج الفرد من فرديّته المغلقة (ذاتيّته) والاندماج في الكلّيّ (الدّولة) و، بالتّالي، بلوغ اللّحظة التي تصبح فيها المصلحة العامّة مصلحةً خاصّة، ويغدو فيها تحقيقُ الثّانيّة تجليّاً لتحقيق الأولى. هكذا انتهى هيغل إلى إحكام ربط صلةِ الفرد والمجتمع المدنيّ بالدّولة ربطاً عضويّاً على نحوٍ لا إمكان معه لنظرةٍ تَقابُليّة: تضع الفرد، أو المجتمع المدنيّ، في مقابل الدّولة كما درجت على ذلك فلسفة القرن الثّامن عشر السّياسيّة. وما من شكّ في أنّ فكرة هيغل عن الفرد والحريّة، وعدم أسبقيّتهما للدّولة، تجد بعض جذورها في مفهوم مونتسكيو للحرّية بما هي التي يمنحها القانون (= الدّولة)، و- إلى حدٍّ مّا- في مفهوم الإرادة العامّة عند جان جاك روسو بما هي أعلى من إرادات الذّوات/الأفراد.
يستأنف ماركس نقد هيغل للفرد - ولفلسفة الأنوار عامّةً - انطلاقاً من واقع الثّورة الفرنسيّة، نفسه، الذي تجاوز نظرة الأنوار. كان ذلك في مرحلته الفكريّة الهيغيليّة وفي نقده للإيديولوجيا الألمانيّة. لكنّه، في مرحلة لاحقة، طوّر رؤيته إلى المسألة حين اهتدى إلى التّحليل الاجتماعيّ للتّناقضات متوسّلاً الدّيالكتيك (= الجدليّة) الهيغيليّ. سيتوقّف ماركس، هنا، عن الحديث عن الفرد والإنسان ليتحدّث عن أبنية المجتمع وبنائه الطّبقيّ خاصّة. ليس المجتمع مكوّناً من أفراد، كما تقول المقالة اللّيبراليّة، بل من طبقات اجتماعيّة. وهذه خَلَقَتْها العلاقاتُ الماديّة للإنتاج والتّقسيم الاجتماعيّ للعمل. لكلّ طبقة مصالح خاصّة بها، والأفراد لا يتحدّدون من حيث هم أفراد، بل بما هم منتمون إلى طبقات اجتماعيّة، وهم لا يَتَعرّفون إلى مصالحهم الخاصّة إلاّ بوصفها جزءاً من منظومة المصالح الطّبقيّة الخاصّة بالطّبقات التي إليها ينتمون. وهكذا لا سبيل لدى الأفراد للدّفاع عن مصالحهم إلاّ من طريق الدّفاع عن مصالح طبقاتهم. أمّا تحقيق حرّياتهم فوقْفٌ على تحقيق حرّيات الطّبقات التي ينتمون إليها؛ فهي فرعٌ من أصل أعلى.
أدمج هيغل الفردَ في الدّولة، وأدمجَهُ ماركس في الطّبقة؛ وهُما معاً كينونتان جماعيّتان أعلى من الفرد. ليس في الإدماج هذا من تذويبٍ للفرد وإلغاءٍ تماماً، ولكن فيه نزْعٌ لمركزيّتهِ في الوجود الاجتماعيّ؛ أي في نطاق كينونتين أعلى وأشمل هما: المجتمع والدّولة، وإعادةٌ له إلى حجمه الطّبيعيّ ككائنٍ اجتماعيّ وسياسيّ يسبح في فضاءٍ من العلاقات التي تربطه بمحيطيْه المجتمعيّ والسّياسيّ. وهكذا فيما كانت اللّيبراليّة تُجرّد الفرد من روابطه بما يقع خارج ذاتيّته، وتكرّسه كياناً ناجزاً ومبدأً للوجود الاجتماعيّ، ذهبت الهيغيليّة - وبعدها الماركسية- إلى التّشديد على الماهيات العليا التي لا يتحدّد إلاّ بها ولا يتمتّع بوجودٍ إلاّ في نطاق أحكامها: الدّولة والمجتمع/الطّبقات.