ولم تتبن أي جهة رسمية هذه المعلومات ولم يصدر عن البيت الأبيض أو عن الرئيس جو بايدن أي موقف في هذا الشأن، ومع ذلك خرج الرئيس الروسي، شخصيا، للتبرع بنفي الأمر ووصفه بالـ "هراء".

ويأتي الإعلان عن الأمر قبل أيام من لقاء بايدن وبوتن في جنيف في 16 من الشهر الجاري، وبالتوازي مع جولة جديدة في فيينا تسعى إلى التوصل إلى إتفاق مع طهران حول البرنامج النووي.

لسان حال موسكو يقول إنه إذا كان لا حلّ في سوريا، مثلا، دون رضى أميركي فلا احتواء لإيران دون شراكة كاملة مع روسيا. أولوية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هي مواجهة "الخطر" الصيني، فإنه يسهل استنتاج أن واشنطن ترتب الملفات الدولية وفق تلك الحقيقة.

سواء تعلق الأمر بالسعي لإنعاش التحالف الغربي في جولة بايدن الأوروبية، أو بالتوصل إلى اتفاق مع إيران في فيينا، أو في لقاء الرئيس الأميركي بنظيره الروسي بعد أيام، فإن الوجهة الأميركية الأولى هي التموضع الاستراتيجي وفق المعطى الصيني الداهم.

روسيا تعرف ذلك تماما، وتدرك أهمية التحدي الصيني بالنسبة للولايات المتحدة، وإذا ما تطور الوفاق الروسي الصيني، وهو الذي لطالما كان مفقودا في مراحل زمنية سابقة، فذلك أن موسكو تستفيد من المواجهة الصينية الأميركية بحيث تحظى بدعم الصين وتلاحظ مدى اندفاع بكين لتطوير علاقات اقتصادية ودفاعية وسياسية مع موسكو. وهي دينامية لن تكون موجودة، بهذا المستوى على الأقل، لو أن وفاقا واستقرارا يسود العلاقات الصينية الأميركية.

على هذا يجد بوتين نفسه حاجة حيوية للبلدين داخل أبجديات صراعهما وتنافسهما على زعامة العالم. صحيح أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين في حالة سجال وصراع مع روسيا، إلا أن موسكو تعرف أنها باتت مادة خلاف وليس إجماع داخل التكتل الغربي الذي يطمح بايدن إلى ترتيب صفوفه، وأن موقعها من الصراع مع الصين أساسي في تحديد بوصلة ومواقف تلك الدول.

بالمقابل لا يخفى على سيّد الكرملين أن طموحاته تبقى محدودة ومكلفة دون توافق مع واشنطن وحلفائها. صحيح أن الصين تدعم الطموحات الروسية في سوريا وليبيا وشرق المتوسط وشرق أوكرانيا.. إلخ، إلا أن هذا الدعم لا يحقق لموسكو أهدافها ولا ينجز مهماتها. الواقع أن الحالة السورية خير دليل على أن سيطرة موسكو على سوريا لم تمكنها من إنتاج حل ينهي حالة الحرب هناك، وأن إدارة موسكو للصراع ما بين إيران وتركيا وإسرائيل في سوريا، أو الترويج للانتخابات الرئاسية الأخيرة وتلميحها إلى إمكانية إجراء أخرى "مبكرة" في حال تمت تسوية ما، لم يمكّن روسيا من تسويق رؤيتها للحل الدائم وإعادة الإعمار دون مباركة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وتستبق موسكو أي اتفاق دولي "نووي" مع إيران قد ينافس موقع ونفوذ روسيا داخل هذا البلد. تؤكد موسكو، حتى في قراءة سطور نفي بوتين خبر القمر الاصطناعي، على بقاء إيران داخل المجال الاستراتيحي الروسي في مجال الأمن والدفاع والتسلح والمعلومات. وتعمل روسيا على تمهيد الطريق لتوسيع حصتها داخل السوق الإيراني الذي ستقف على أبوابه الدول الموقعة على الاتفاق المحتمل إذا ما طبخته مداولات فيينا. 

والواضح أن التفاؤل المفرط والدائم والمضجّر لمندوب روسيا لدى المنظمات الدولية في فيينا، ميخائيل أوليانوف، في التعليق على المفاوضات هناك والمبالغة في الدعاء لنجاحها، يهدف إلى التعويل على هذا الاتفاق لتقوية موقع روسيا في إيران من جهة وعبر إيران من جهة أخرى.

بوتن يُعدُ ظروف لقائه مع بايدن، وينفي المعلومات حول صفقة القمر الاصطناعي الروسي الذي يوفر لإيران "عينا" فوق منطقة الشرق الأوسط تراقب من خلالها المواقع والمنشآت بما في ذلك الأميركية والإسرائيلية.

كما أن القمر (المزعوم)، وهنا بيت القصيد، يزوّد الصواريخ الباليستية الإيرانية بأدوات حديثة يمنحها مزيدا من الذكاء ودقة التصويب. يأتي أمر تلك المعلومات مع بدء جولة جديدة من المفاوضات للتوصل إلى اتفاق ينهي نزاع واشنطن وطهران حول البرنامج النووي، وقبل مباشرة مرحلة محتملة جديدة لفتح ملف برنامج إيران للصواريخ الباليستية (وسلوك إيران المزعزع للاستقرار وحقوق الإنسان في إيران).

على هذا تتقاطع مصالح طهران وموسكو ويفتضح سيرهما وفق خريطة طريق مشتركة في مواجهة إدارة جور بايدن. وليس صدفة، ربما، أن يتزامن الإعلان عن بيع "عين" روسية لإيران مع الإعلان في واشنطن عن قلق من عبور قافلة بحرية عسكرية إيرانية مياه المحيط الأطلسي تحمل أسلحة "نوعية" إلى فنزويلا.

وفيما حذرت إدارة بايدن فنزويلا وكوبا من رسو سفن إيران في مرافئها، فإن للروس (من خلال إيران) مصلحة في القرع على أبواب الحدائق الخلفية للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية.

والواقع أن السلوك الروسي يشبه ذلك الإيراني من حيث السعي للمشاغبة للحصول على المكاسب. يرمي بوتين النرد ويطلق أوراقه متوسلاً اعترافاً غربيا (أميركيا بالأخص) بنفوذ روسيا الجديد في العالم. وسواء فيما حشدته روسيا من قوات على حدود أوكرانيا قبل أسابيع، أو فيما تنسجه من علاقات مستفزة مع إيران، أو فيما تملكه من أدوات الحل والربط في سوق الطاقة وميادين مثل سوريا وليبيا أو في تحالفها مع الصين، فإن موسكو تستدرج الولايات المتحدة إلى لهجة أخرى في التعامل معها بعد أن فقد بوتين "الصديق" دونالد ترامب وأتاه في البيت الأبيض بايدن الذي وصفه قبل أسابيع بـ "القاتل".

قد لا تكون روسيا وراء السلوك الإيراني المعادي لـ "الشيطان الأكبر"، لكن موسكو لا يضيرها ذلك. فإيران، سواء أحب قادتها ذلك أو كرهوا، هي أداة من أدوات السياسة الخارجية لموسكو. والمفارقة أن أمر القمر الاصطناعي المزعوم كشفت عنه صحيفة أميركية نقلا عن "مصادر" أميركية أرادت التذكير أن واشنطن تعرف ما يجري في موسكو وما يجري في طهران. وبوتين من جهته يملؤه الحبور للأمر.