المعلومة بالطبع أفيون الحداثة. وعندما يجري تسويقها كحجّة للإنابة عن المعرفة، فإنها تستعير هوية جلّاد واقعنا الإنساني، لتغرّبنا عن هذا الواقع، بتغريبنا عن البُعد الروحي في وجودنا الإنساني، في زمنٍ تنكّر فيه الواقع الإنساني، لطبيعة الوجود في بُعْده الإنساني، بعد أن نصَّبَ تقنية المعلومة في نشاطه معبوداً.

فالهويّة الإغترابية تهيمن، حال الإعتراف بالمسلّمة كأبجدية في الخطاب اليومي، بدل اعتناق دين التشكيك في المسلّمة، كما يُملي الناموس الذي كان إلى وقت قريب قانوناً يحكم واقع يحترف عرف الجدل في استجلاء حقيقة، حقيقة هي رهان علاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

تحذير منظمة الأرشفة ناتج، بالطبع، عن حرص مبرّر على سجيّة شبحيّة في حضارة حجر حكمتها عملة إسمها: الضوء.

الضوء ليس في ماهيّة التنوير، ولكن في حرف الوهج الفاني، الذي لا يغمر الواقع ليبدّد ظلمة الواقع، ليكشف حقيقة الواقع، ولكن لكي يعمينا عن رؤية ما يحتجب خلف حرف الواقع، قبل أن ينطفيء، مخلّفاً في البصر عماءً، وفي البصيرة بلبلةً، ليعطّل فينا القدرة على الإستفهام؛ لأن السؤال كلمة السرّ في نزول فردوس الحرية. فالشّرَك إنّما يسكن مبدأ التلقّي.

فنحن لم نعد مخلوقات مسكونة بحمّى الفضول، ولكننا صرنا رهائن شقيّة في قبضة التلقّي!

أي أننا نعاني حكماً جائراً بقبول قدَر الإغتراب عن واقع استخدام مواهبنا في التفكير، واحتراف التجلّي، كضمان وحيد للحلول في حرم الحقيقة. فماذا نجني مقابل هذا القربان الجسيم؟

نجني التحدّي الذي لا يستحي أن يعترف بهويّة الضيف العابر، بهوية الطيف الذي ليس لنا أن نعوّل عليه لأنه فانٍ، لا لشيء إلّا لأنّ ذخيرته تسكن فضاءً سرابيّاً كالضياء، لا يتبدّى إلّا ليتبدّد، ربما تكفيراً عن خطيئة اعتناقه لرذيلةٍ كالكذب، وإلا ماذا يمكن أن نسمّي التشدّق بافتراضية كل ما متّ بصلة للوجود، بدايةً بالعلاقة، مروراً بالخطاب، ونهايةً بالحضور في حضرة الآخر؟

فاللبس يكمن في طبيعة المعلومة. فهي ليست علماً كما نتوهّمها. ليست غنيمة تستفزّ فينا فضولاً، ولكنها مجرد إفادة. إفادة عن واقعة. صيغة إخبار، لوضعٍ فحواه في الاعتبار، دون أن نكون معنيين في الواقع بهذه الفحوى. وهنا يسكن الاغواء الذي تستخدمه المعلومة للإيقاع بنا. هنا تستعير المعلومة طبيعة الشَرك الذي يأسرنا، ليصادرنا من أنفسنا، باستنزاف وقتنا، فلا يكتفي، ولكنه يأبى إلّا أن يُبلبلنا.

ولا وجود لخسارةٍ يمكن أن تعوّض خسارة الوقت، كما لا وجود لمصاب يمكن أن يعادل الإبتلاء بالبلبلة. فوجودنا كله رهين وجود الوقت، ورهين حضورنا في الروح. ورسالة المعلومة زعزعة هذين القطبين.

فبالبلبلة نغترب عن فردوس الروح، وبإضاعة الوقت ندفع مكوساً نفيسة هي التخلّي عن شريحة مستقطعة من كينونتنا بالمجّان. وأحسب أن هنري ثورو لم يخطيء منذ قرنين عندما قال أن تبادل الأخبار ما هو إلّا نوع من تبادل النفايات!

ولكن خبث هذه الجنيّة إنّما يكمن في قدرتها على إيهامنا بأننا نتلقّى في حرفها علماً، لا معلومة. نتلقّى هبةً، لا دسيسةً خُلقت لكي تغرّبنا عن حقيقتنا كقيمة.

تبرّيء المعلومة ذمّتها بطبيعتها كموقف حياد، وعلينا وحدنا تقع مسئولية تأويل حجّتها، لأن الإفادة في نيّة الإعلام كثيراً ما تمسّنا، سواء في بُعْدٍ مباشر، أو غير مباشر، فتكفّ عن أن تكون نفاية في مكبّ المهملات، فتستوقفنا لتستطلع موقفنا. تستطلع مدى إستجابتنا.

فنحن، بمنطق تقنيات المعلومة، مدعوون للمشاركة في ممارسة دور في اللعبة. دور في المهزلة التغريبية، لنفي هذه الطبيعة التغريبية عن الشرَك، لإحكام الأنشوطة حول رقابنا، تمهيداً لتحريرنا من علّة حضورنا، وهي: الروح! فلا ندرك إلّا بعد فوات الأوان كم نحن أشباه! كم نحن أشباح! كم نحن حقّاً مجرد ظلال كل ما يميّزها عن الأشباح أوزانها التي تثقل كاهل أُمّنا الأرض. فكمُّ المعلومات الذي نتلقّاه هو رصيدٌ مستخلص من مستودع ذخيرتنا الوجودية، الملفّقة من واقع معرفيّ، وآخر جمالي، وثالث وجدانيّ، ينبض بمعزوفتين ملحميّتين إحداهما الحرية، وثانيتهما الحقيقة.

وهو ما يعني أننا ننزف بسخاء طوال نزالنا مع سعلاة الحداثة هذه. وليتنا ننزف أبداناً، ولكننا ننزف أرواحاً. ننزف أرواحاً، فلا نضمن ألا نستعير هوية الـ«غوليم»، ذلك المخلوق الغيبيّ الذي نحسبه إنساناً لمجرد أنه احتفظ بجرم الإنسان، ولا نكتشف أنه مسخ بلا روح إلا بعد فوات الأوان.

فنشاط المعلومة ضربٌ من عملٍ جرثوميٍّ ورميّ رسالته حبك كفن نسيانٍ، في سبيل الإطاحة بعرش الذاكرة: ذاكرة ستبقى رهاننا في البرهنة على حضور ٍاعتدنا أن نعتمده في حرف الوثيقة التاريخية، التي نوّهت منظمة الأرشفة بحمايتها من خطر جلّاد يدمن افيون حداثي كتقنية المعلومة.

وطبيعي أن الخلاص ليس في الحرص على نجاة الذاكرة الحرفيّة، المترجمة في قرطاس الحسّ كما الوثيقة، ولكن في الحرص على خلاص الذاكرة الروحية، المهدّدة بإدمان المعلومة، المطروحة اليوم كبديلٍ للعلم، المخوّل وحده لاستنطاق الوجود، لاستجلاء حقيقة عالم استمرأ خطاب الإغتراب، ليستوطن واقع اغترابٍ.

والوعي بالمحنة هو ما يدعونا للبحث عن صيغة للتصالح مع مغامرة التقنية، التي صارت جزءاً من واقعنا الكينوني، بعقد هدنة، تقنّنن العلاقة، بحيث تستقيم في معاهدة رسم حدود، للحيلولة دون ضياع روحٍ، الذاكرة المهدّدة لها قرون استشعار؛ لأن لسان حال الوصيّة الأمميّة يخاطب فينا الضمير الذي كشف لنا زيف كل ما استودعناه خزنة الضوء الحداثي، لينبّهنا إلى وجوب الوفاء للمسة الروح، التي لا حصانة لها خارج حِمَى النقش في صلد الحجر، أو الرسم في شظية الشجر، أو الوسم في رقوق الجلد، أو البصم المختطّ في صحيفة قرطاسٍ. والدليل؟

الأدلّة يهديها لنا الواقع المترجم في حرف التاريخ. فلولا ما سمّي بـ«حجر الرشيد» لما اكتشفنا سرّ اللغة الهيروغليفية الذي يفوق في القيمة اكتشاف القارات الأمريكية الثلاث، ولولا «حجر مسّينسّا» لما اكتشفنا سرّ اللغة الليبية القديمة، ذات الفضل في نحت المفاهيم الحدسيّة، اشتقاقاً من واقع التجربة الحسيّة، لتكون جديرةً بلقب «لغة التكوين»!