كما أضاعت "تانّس" حميمها وشقيقها "وانّس" القتيل بطعنة غدر، تواصلت هوية الضياع في حرف السيرة، عندما زحفت القبيلة الإلهيّة نحو الشرق، سعياً وراء سلسبيل سيل الألوهة، المجبول بروح الغيوب، المسكون بسلطان السِّحر، لتتكرّر سيرة الفَقد في مأساة الشقيّة "إيزيس"، التي أضاعت حميمها وشقيقها "أوزوريس"، بمكيدة غدرٍ أيضاً، لتتنصّل من شَعرٍ هو في رأس المرأة شعار حُسنٍ في منطق ملل الانام، حداداً على غياب الحميم، قبل أن تنطلق بحثاً عن أشلاء القتيل المبعثرة على شطآن السيل الطويل، مردّدةً مراثيها التي اعتنقتها الأجيال ديناً.

أمّة الرحيل، المنكوبة في الوطن الأوّل بسبب طوفان الماء، والمنكوبة في وطنها الثاني بسبب غياب الماء، تغنّت بالمراثي أيضاً، حزناً على ضياع الدليل، حزناً على ضياع حِزم التمائم الملفّقة في سفر الناموس، الملقّب في لسان قومٍ صار الإغتراب في مسيرتهم خطاباً، صار يقيناً، باسمٍ دالٍّ على عهدٍ موغل في القدم، لم يجدوا له في اللغة ترجماناً سوى مفردة عصيّة هي "آنهي"، اشتقاقاً من فعل إنهَي، "بَكّرَ"، الذي يبدو ملفوظةَ بلهاء، هيهات أن تتمكّن من التعبير عن مغامرة الحضور في واقعٍ مبهمٍ، مبلبلٍ بلغزٍ عصيٍّ، هو: التكوين!

الأخلاف أيضاً اضطرّوا، في تيههم، أن يحرثوا صحراءهم طولاً وعرضاً، في نيّةٍ للملمة أشلاء ناموسهم الضائع، فاختطفوا مقتطفاً هنا، واقتنصوا نُتَفاً هناك، تماماً كما طافت المكلومة "إيزيس"، أو في قراءة أصحّ: أسيس، شطآن السيل الخالد، كأنه سيف أسطوري، سخّرته الغيوب كي يشطر الصحراء الكبرى إلى شقّين، ليهب الوجود لغزاً منيعاً ورثته الأجيال في اسم جليلٍ هو "مصر"، الذي لم يكن سوى تحوير لأصلٍ هو "مزر" (كإبدال شائع بين الصاد والزاي)، ليعني في لسان العامّة المتداول "البلاد"، أو "الوطن"، ولكنه لا يلبث أن يسمو في الصيغة الأولى ليدلّ، في موسوعة إبن منظور، على: الأول، بوصفه أول حرف في أبجديّة لغزٍ هو: الوجود، أي الطينة النواة في سفر التكوين، كما لايزال سارياً في لسان أحفاد قدماء الليبيين، طوارق اليوم.

من "مزر" استعرنا مصطلح "مزار" أي ذلك الموقع المقدّس الذي نحج إليه لنتيمّن بأعطافه، ونطرح عند أعتابه القرابين.

أَوَ لَم تكن "مصر"، في صيغة "مزر"، مزار الخليقة منذ الأزل، لأنها مرجع الأولويّة في سفر مسقط رأس الكينونة، ليحقّ لنا أن نعترف بها كأمٍّ لفظت من لدنها جنيناً اسمه الدنيا؟

من معابد هذا المزار المهيب استعاد الظامئون إلى الحقيقة نصيباً من متنهم المفقود، ليستودعوه قلوبهم، بعد أن خذلتهم عضلة سوءٍ أسمها اللسان، وخانتهم خزنة هشّة هي الذاكرة، فاستجاروا بالشجر هذه المرة، بعد أن ذهبت رقع الجلد بالأثر. اختطّوا في لحاء الأشجار متوناً، توقاً لإنقاذ ما أمكنهم الحصول عليه من غنيمة التّيه. ولكن الكنز لم يصمد للبقاء في بطون اللّحاء طويلاً، ففتّشوا عن طريقة لصون ما تبقَّى. وكان عليهم أن يستميتوا طويلاً كي يهتدوا إلى الألواح المستقطعة من الجذوع السخيّة، ليقوّموا منها صفائح، استخدموها صحائف، حقنوها بترياق المتن النفيس، المسطّر برموز الأبجدية البدْئيّة، صوناً للحرف القديم من بطش النسيان.

كان على القوم أن يخوضوا حرباً أخرى في سبيل الاحتفاظ بما تبقّى من ذخيرة الناموس المهدّد دوماً بالضياع، لأن المخلوق المفطور على الترحال لابدّ أن يتململ يوماً، عندما يكتشف كيف تتحوّل كنوز الألواح في حياته عقبةً تكتم فيه أنفاس الحنين إلى أفيون هو الترحال. فلم يجدوا مفرّاً، في أحد الأيام، من الذهاب بها إلى المنفى، كما فعلوا يوماً، ليستودعوها دور العبادة، ليبدأ عهد اغترابٍ آخر، في حكمة السِّفر المُعجز.

السِّفر، في معنى المتن، لم يكن ليستعير حرف هذا الاسم لو لم يعتنق دين السَّفر: السَّفر في صيغة ترحال. فالأوطان لا تهاجر. الأوطان لا تسافر، ولكن ذخيرة الأوطان هي التي تسافر.

والمعابد؟ المعابد أيضاً لا تهاجر. دور العبادة لا تسافر. ولكن ذخيرة المعابد هي التي تسافر. الأسفار المستودعة في بطون المعابد هي التي تسافر، لأن ما يليق بالأسفار هو أن تسافر. الأسفار تستعير ألف جناح، كي تعبر الآفاق، لتحلّ نبوءةً في أبعد الأركان، لأنها وحدها امتلكت الحقّ في أن تجدّف في حقّ التحريم، لتعبر قدس أقداسٍ كالحدود. وهي معجزة لم تكن الأجيال لتعترف بحقيقتها لولا تدخّل جناب اللسان، لولا حُجّةٍ، هي في المنطق برهان وجود، كاللغة.

فالناموس، المترجم في حرف الأسفار، هو الذي تغلغل في شرايين رطانات الأمم، حاملاً المفهوم الأصليّ، المفهوم المستعار من اللسان البدئيّ، المحتفظ في المدلول الأوّليّ، المستنزل بحرف المتن المبكّر، المترجم في كلمة "آنهي"، ليتنزّل في واقع الأمم دليلاً.

سارت الأسفار في ركاب القوافل، محمولةً على ظهور المطايا حيناً، وساريةً في ألسنة المهاجرين الأبديّين حيناً، قبل أن يطيب لها المقام في رحاب اللغز، في رحاب عرّابة الوجود البشري: مزر، أي مصر، كما في لسان اليوم، ليصير لقب مهيب، مثل "آنهي"، اسما لصيقاً بكاهن الكهّان، المخوّل بتولّي الوصاية على الصحف المدوّنة باللغة السريّة، بل والسحريّة، التي ظلّت وَقفاً على جناب السدنة، وحرماً محرّماً على الأغيار من فئة العامّة، المعبّر عنها بـ "هيروغليف"، الدّالّة في لغة المهاجرين، المتدفّقين من أعماق الصحراء، على معنى "الوصايا المصونة"، ترجمةً أمينةً من لغة السفر المعجز، من لغة الناموس الأوّليّ، الترجمان الشرعي لكل ما متَّ بصلة لديانات العالم في طوره البدئيّ، في مطلع عهده بواقع الوجود الحسّي التجريبيّ، الذي أهّله لصياغة المفهوم التجريديّ.

وكان من المنطقي أن يُقبل المهاجرون (في زمن كانت فيه القبيلة البشريّة كلّها جحفلاً راحلاً) حاملين في أعطافهم متاعهم الروحيّ أيضاً، إلى جانب متاعهم الحرفي، فلا يكتفي كبير كهنة المعبد بانتحال إسم "آنهي"، تيمّناً بالنّعت الذكيّ، الذي استنزله الأوائل في حقّ متن المتون، وترجمان حقيقة هذا الوجود، في بُعْده الأوّليّ، ولكنه يأبى إلّا أن يتغنّى بفحوى المتن السليب، في الأناشيد المكرّسة لمديح ربّ الأرباب "هرو"، الدّالّ في لغة أهل السِّفر الأوّليّ، على "القدمة"، أي القديم، ولا يتردّد في أن يبصم حزمة الوصايا بوسمٍ يقول "برت أيمي هرو"، لترثه الأجيال بهذا الاسم، الذي يعني في لغة أمّة الرحيل "الطريق إلى برّ الإله هرو"، فيتبلبل علماء المصريات في تأويل معنى الطلسم، ولا يجدوا مفرّاً، بعد أن أعيتهم الحيلة، سوى استقدام اسم من خارج السياق، ليعَنونوا به سِفر مصر المقدّس، هو: "كتاب الموتى".

ليس هذا وحسب، ولكن "هرو" اسم موقع أسطوري، لسلسلة جبليّة أسطوريّة، تنتصب غرب الصحراء الليبية، مازالت تجري في وديانها الأنهار، وتستلقي فيها بحيرات تعجّ بالتماسيح، جديرة بلقب دالّ مثل "بيت القِدمة"، لتكون رديفاً مناسباً، بعد استقرار القبيلة في رحاب مزر، بالاسم المنيع، الذي اعتمده أهلها في شعار "بيت المليون عام" الذائع الصيت، دون أن ينسوا أيضاً أن يستعيروا من ذخيرة لسان الأمّة الطارئة تعبيراً حيّر علماء المصريّات دهراً، وهو: نوتَّر، الدالّ على "القداسة"، كما يجري في منطق أحفادهم الصحراويين إلى اليوم، ليخلعوا على ملاذٍ كالمعبد اسم "هن ـ ن ـ كيت"، الدالّة في لغة القبيلة الإلهيّة المهاجرة، كما يصفها القدّيس أغسطين، على: بيت القربان!

في هذا الفردوس، المغسول بسلسبيلٍ قدسيٍّ هو النيل، تخالطت الأعراق الميمّمة صوب أرض مزر السخيّة، حيث تتماهى أجناس الثقافات، وتتبلبل اللهجات، من إثيوبي نوبيّ صعد من الجنوب، إلى ليبيّ صحراوي أقبل من الغرب، إلى إغريقي نزل من الشمال، إلى عربيٍّ عبريٍّ فينيقيّ حلّ من الشرق، في مراحل سبقت حملات الهكسوس بزمنٍ طويل، فلن يدهشنا أن تهيّئ سطوة الاندماج المناخ لإعادة صياغة الهويّة، بحيث لا نعود نستنكر أن يعتلي عرش أحجية الوجود، الملقّبة باسم "مزر"، أو مصر، ملك ينتمي بالعرق إلى الأرومة النوبية الأثيوبيّة، مثل "تهارجا"، الذي مكث في الحكم نصف قرن، ولكنه اضطرّ للفرار إلى وطنه الأمّ، كما يروي هيرودوت، فزعاً من رؤيا تلقّاها في المنام، لتكون هذه الرؤيا سبباً في تشكيل طينة الاسم، لأن "تهارجا" في اللغة المنسيّة، تعني "الحلم"، كما مازالت تجري في لسان أحفاد قدماء الليبيين طوارق اليوم. كما فرضت نزعة التسامح الناتجة عن التعايش الطويل، تقبُّل قيام سلالات المهاجرين المقبلين من الوطن الليبي الصحراوي، باعتلاء عرش لغز العالم، مكوّنةً أسرة كاملة هي الثالثة والعشرون في سلّم الأسر الخالدة، قبل أن تتاح الفرصة للعرق اليوناني لنيل نصيبه من الغنيمة، التي لم تبخل بالمجد على أيّ قطب ثقافي أو ديني أو عرقي، مترجماً في عهد البطالسة، المفتتح من قبل الأسكندر المقدوني، دون أن ننسى هيمنة قبائل الهكسوس، القادمة من الشرق، على مثلّث الدلتا، في مرحلة تاريخيّة أسبق، لأمدٍ استغرق أجيالاً. فالروافد التي شكّلت هويّة النيل الروحيّة لم تقتصر على الأجناس الكونية، لم تقتصر على تنوّع السلالات في بعدها العرقيّ، ولكنّها استوعبت أيضاً العنصر الثقافي.

إنه العنصر المدجّج بالسلاح الأخطر وهو: اليقين الدينيّ. وها نحن نرى أفواج اللاويّين، يتدفّقون على مصر، ليبوّأوا منزلة السّدَنة القيّمين على الـ"هيروغليف"، على الوصايا السريّة، الحافظة لكنزٍ باسم الناموس، لينضمّوا إلى محفل الكهنة، المخوّلين باحتكار الحقيقة، المخفيّة في بطون المعابد. وها هم حكماء بني عبران ينتهزون فرصة الزلزلة التي حاقت بكيان نواة الكينونة، فيفرّون بأحكام الناموس البدئيّ إلى ديارهم في أورشليم، كما يروي كاهن عظيم في مقام بلوتارخ في أسطورة إيزيس وأوزوريس، لتكون أُسّ أسفار العهد القديم، سيّما "سِفر الجامعة".

ففي أزمنة ما قبل التاريخ، سيّما في حقبة ما يُعرف باسم "تاريخ ما قبل الأسرات"، كانت "مزر" منارةً مشاعاً، منهلاً مباحاً، لا تبخل على الخليقة بما أُتيت من علم الغيوب، فلا نستهجن أن تفيض بحكمتها على أقوام أوطانٍ، يقطنون أصقاع يابسةٍ شحيحةٍ، بسبب حداثة العهد بزمن الفطحل، تستعير أمّة ظمآى إلى الحقيقة كالهند، الغارقة في أوحال الأدغال، حجّتها، من مؤونة المعابد السخيّة، مترجمةً في حرف "الأوبانيشاد"، الدالّ في اللغة المخفيّة، أو المنسيّة، أو المحظورة، على "روح الشرّ"، كدستورٍ لترويض خصم الوجود الأوّل، سيّما في عهد طفولة الوجود البشري، في واقعٍ كل شيء فيه مُعادٍ، كما الحال مع ما أطلقت عليه الخليقة لقب "الشرّ". استمر تدفّق السيول في أخاديد نهر النيل، مختزلاً أحجية نسيجٍ غيبيّ هو الزمن، حارثاً في الواقع تجربة تطويع الطبيعة، لتجود على طفلها المدلّل بالمزيد؛ وها هم السدنة يستجوبون الشجر، ليستخرجوا من مملكة النّبوت صحائف البرديات، لتتحوّل هذه اللقية في أيدي الصنّاع المهرة مادّةٍ طيّعةٍ تتلقّى نزيف الروح، ظامئة لاستكشاف حقيقة هذا الوجود، مجسّداً في حروف أبجديّةٍ شعريّةٍ، تتغنّى بأنشودة الناموس، ليتخاطفه رسل الأمم، ليحملوه على ظهور المطايا، فيحلّ ضيفاً في رحاب أبعد الأوطان.

ولكن انتشار الفحوى في رطانات الأمم لا يفكّك شفرة الغموض في المتون؛ لأن حجر الزاوية في كيان الحكمة يبقى مفقوداً، ليغترب المفتاح إلى بوّابة الأزل، باغتراب رموز اللغة الأولى، التي تسكن مجاهل لسان أهل التّيه، المكبّل بأختامٍ منيعةٍ، محروسةٍ بسلطان العزلة الدهريّة، لتتحوّل حجاباً عصيّاً، يستحضر شبح الجلّاد، ليكون على خزنة السرّ وصيّاً، متنكّراً في حرف لثامٍ ما لبث أن صار، في ملحمة الاحتجاب، بياناً، برهاناً، ترجماناً!

فوحدة الكائنات مبدأ مستعارٌ من وحدة اليقين، ووحدة اليقين مبدأٌ مستخلص من وحدة التجربة الروحيّة؛ ووحدة التجربة الروحية مبدأ مستحضر من وحدة الطبيعة المادية؛ ووحدة الطبيعة الماديّة مبدأ يترجم وحدة الطبيعة الإنسانية. والناموس ما هو إلّا الترجمان الأمين لهذه الطبيعة الإنسانية.

ولا سبيل لصون الناموس من قدر الضياع، ما لم يجرِ تسريب روح هذا الناموس كي يسري في شرايين التجربة الأخلاقيّة، ليصير، بهذه البطولة، غنيمةً روحية.

من حقّنا، بهذا المنطق، أن نخلع على الناموس وسام "متن الروح".