الحقيقة أن أي قاريء للتاريخ يمكنه أن يدرك بسهولة كم أن هذا القول مُضحك وهش، فالاعتزاز التاريخي أمر سبق عصر الاستعمار الأوروبي بقرون.

فالحضارة الإسلامية احتوت كتابات وضعها أناس انتموا لبلاد ذات حضارات قديمة، حاولوا إن يُبرِزوا التاريخ القديم لحضارات تلك البلاد وأن يقدموا صورة راقية عنها، مثل وهب بن منبه (655م-735م)والذي كان من اليمن المعروف بحضارات مَعين وسبأ وحِميَر، ووضع كتابه الشهير "التيجان في ملوك حِميَر" والذي تناول فيه سير ملوك اليمن القدامى بشكل يغلب عليه الطابع الأسطوري ونمط السير الشعبية، ولكنه ينم عن اعتزاز صاحبه بتاريخ بلاده..

أو مثل أبو القاسم الفردوسي (935م-1020م) وهو فارسي وضع كتابًا من روائع الأدب هو "الشاه نامه/كتاب الملوك" وهو يحكي سير ملوك فارس منذ نشأة الدولة وحتى آخر ملوكهم يزدجرد الثالث، ويتسم هذا الكتاب أيضًا بالطابع الأسطوري ولكنه يعبر عن اعتزاز الفردوسي بتاريخ قومه..

 بل أن المؤرخ والمفسر ابن جرير الطبري (839م-923م) وهو فارسي الأصل من طبرستان قد اعتنى في كتابه "تاريخ الأمم والملوك" بذكر تواريخ ملوك الفُرس وربط التأريخ للأحداث بهم فيما قبل البعثة النبوية، أي أنه لم يجد غضاضة في إظهار انتماءه التاريخي الفارسي ولم يجد فيه تعارضًا مع انتماءه للحضارة العربية والإسلامية..

لماذا؟ لأن أسلافنا الذين أقاموا الحضارة الإسلامية-أعظم حضارات التاريخ الوسيط-كان لديهم ما يكفي من النضج للتعامل مع تاريخهم القديم.. بل أن مما أثرى علم التاريخ اهتمام أهالي البلاد التي دخلها الإسلام بأن يُبرِزوا عراقة تواريخهم وحضاراتهم السابقة، وتقبل المؤرخين المسلمين هذا فاعتنوا هم أنفسهم بتلك التواريخ وهو اعتناء نجده في نماذج ك"المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" للمقريزي أو ب"تحقيق ما للهند" و"الآثار الباقية عن الأمم الخالية" للبيروني، وغيرهم... فلم يجد هؤلاء في اعتزاز أقوام بأسلافهم القدامى ما يضر برابطيّ العروبة والإسلام..

 ولنركز هنا عن فئة "أصحاب الأغراض الخبيثة"وأعني بهم جماعة الإخوان وأتباع تيار العثمانيين الجدد في تركيا ممن أصابهم ذعر هيستيري من اعتزاز المصريين بتاريخ حضارة مصر القديمة، فهم يرددون التهمة سالفة الذكر  بينما هم يعظمون من شأن آل عثمان والذين هم أصلًا لم يأخذوا من حضارة الإسلام سوى اسمها ورسوم السلطة منها، بينما ساروا في الدولة والناس والحكم سيرة خاقانات الترك الوثنيين قبل الإسلام، إلى حد تبني بعض مراسم وأساليب وقوانين هؤلاء القوم، وحاربوا العروبة وقمعوا العرب وهمشوهم وتعصبوا بجنون للعرق التركي حتى أصبحت "الغطرسة التركية" تعبيرًا معروفًا في الثقافة الشعبية العربية!

بل أن نفس تلك الفترة التي شهدت صعود الاستعمار الأوروبي-العقود الثلاث الأخيرة في القرن التاسع عشر وحتى نهاية العقد الثالث من القرن العشرين-قد شهدت فيها الدولة العثمانية الحركة "الطورانية" وهي حركة عنصرية تركية تقوم على تمجيد وتعظيم العرق الطوراني الذي ينتمي له الأتراك والمغول، واستحضار التاريخ القديم له منذ ما قبل الإسلام ورفع شأنه على حساب الثقافة العربية، إلى حد أن الطورانيون قد اعتبروا أن السفاح جنكيز خان هو رمز تاريخي عظيم لهم، واعتنقت الدولة العثمانية هذا الفكر إلى حد محاولتها فرض التتريك بالقوة على العرب لدرجة سفك دماءهم في سبيل ذلك!

ومنذ سنوات قليلة، شاهدنا جميعًا صورة لرجب طيب أردوغان وهو ينزل السلّم وقد اصطف حوله "حرس الشرف" في أزياء جنود الإمبراطوريات التركية الستة عشر السابقة، وبعضها لا ينتمي لحضارة الإسلام مثل إمبراطورية الهون القديمة، فهل هذا مقبول بالنسبة لأتباع العثمانيين الجدد بينما هو غير مقبول لو أظهر المصريون اعتزازهم بحضارتهم القديمة العظيمة؟! لماذا إذن لم نسمع نبرة الاستنكار تلك بحق أردوغان راعيكم؟

ومن يقولون منهم "إن العلاقة منقطعة بين المصريين المعاصرين والمصريين القدماء وأننا لو فحصنا الحامض النووي للمصريين المعاصرين فلن نجد منهم من يرتبط عرقيًا بالمصري القديم"-وهو قول مضحك بشكل غير طبيعي-أسألهم: هل العلاقة العرقية بين الأتراك الحاليين والشعوب التركية القديمة لم تتبدل ولم تتغير رغم حقيقة أن عشيرة "قايي" التي انتمى لها أرطغرل وعثمان لم تتضخم إلا بضمها عناصر بيزنطية ويونانية وتركية أخرى؟

لماذا إذن يصيبهم الجنون كلما أظهر المصريون اعتزازًا بتاريخهم؟

ببساطة لأن معرفة الإنسان أصوله القديمة يساعده في فهم مكوناته الحضارية اللاحقة مما يعطيه القدرة على امتلاك "بوصلة" معنوية يعرف منها من أين أتى وإلى أين هو ذاهب، ويدرك بها تاريخها وتراكمه الأشبه بالتراكمات الجيولوجية..

وهؤلاء لا يريدون ذلك، بل يريدون أناسًا لا انتماء لهم ولا اعتزاز تاريخي عندهم ولا معرفة تاريخية لديهم كي يسهل عليهم تحويلهم إلى عجينة لينة يشكلونها كيفما شائوا ويوجهونها حيثما شائوا..

وهم إن خدعوا بأقوالهم تلك من يجهل تاريخه فإنما هم يؤكدون للمشتغلين بالتاريخ أهمية نشر المعرفة التاريخية التي صارت إحدى أسلحة هذه الحرب الشرسة!