ويتعلق الأمر بإقرار دولة ما بأنها تمتلك أراضي معينة باعتبار حقوقها التاريخية فيها، التي مهما تقادمت فإنها لا تسقط، فيما يزعم كيان انفصالي أو دولة جارة بأنها تمتلكها بقدر حيازتها لها ووضع يدها عليها، حتى ولو كانت المرجعية في الزمان هي الأمس القريب حينما خرج الاستعمار وترك حدودا ما.

إلى هنا يبقى النقاش مطروحا في الأوساط الدولية، إن سياسيا وإعلاميا، أو دبلوماسيا وأمنيا، نظرا لمتاخمته الكثير من القضايا الحساسة والملحة على أجندات السياسة الدولية من ناحية، وكذا كونه موضوعا في غالب الأحيان يحوز اهتمام القيادات السياسية العليا للدول، نظرا لارتباطه أشد ما يكون بالوحدة الترابية، التي يستحيل التساهل بصدد تثبيتها مع زعم دولة جارة بأنها حائزة للسيادة على تراب دولة جارة لها، فقط لأن الاستعمار قد بسط سلطاته عليها يوما.

بيد أن المشكل العويص يكمن في أن المنطق المعاكس تماما لهذا المنطق هو السائد داخل قوانين العقار والقانون المدني والقانون الإداري في معظم عالمنا العربي، وذلك بقدر ما تجد مبادئ وقواعد ووقائع القانون الدولي صدى لها في القوانين الداخلية للدول، ذلك أن المجتمع الدولي هو أشبه ما يكون، وحد التطابق، بالمجتمعات الوطنية، ما دامت وحدة التحليل الناظمة لهما معا هي الدولة وسوسيولوجياها العميقة، إن في مدييها الداخلي أو الخارجي، لتكون الأرض، وكما هي إحدى العناصر المادية التي يقوم عليها تعريف الدولة في القانون الدولي، فهي أيضا أهم معيار لتحديد درجة نفوذ الدولة ومؤسساتها في كل تفاصيل التراب الذي تمارس عليه سلطاتها السياسية والقانونية.

وتبعا لذلك فإن الدولة التي تخضع لقواعد القانون الدولي، تخضع أيضا لقواعد قوانينها الداخلية، لا سيما تلك التي تُلزمها بضبط العلاقات بين أفرادها، وفي مقدمتها ترامي البعض منهم على حقوق البعض الآخر، التي كما سبقت الإشارة، تعتبر مسألة الترامي على الأراضي إحدى أهم مظاهرها باعتبار منطق الحيازة، الذي يقوم على ادعاء طرف ما بأنه ممتلك لحق ملكية أرض ما باعتبار تصرفه المستمر فيها، ومن ثم فلا يحتاج الأمر سوى بعض الشروط الشكلية كالشهود واستخراج صكوك، وبذلك تضيع الحقوق الأصلية التاريخية من ذويها، حتى لو كان الأمر يتعلق بمِلكية توارثتها أجيال عن أجيال لقرون طوال.

للأسف فالأمر على سرياليته وسخافته يحدث كثيرا، ومَلزمات طلاب القانون في الجامعات العربية مليئة بالصيغ الفقهية والمدرسية المكررة التي تُقال وتُعاد، ويكافأ عنها ذوي الذاكرات القوية ويلام على تجاهلها كسالى الحفظ. فيما تحفل جداول أعمال المحاكم بآلاف المنازعات العقارية، التي تدور حول حيازة "مستعمر" لحقوق آخرين دون وجه حق، لكن التلاعب بالقوانين واستخراج الوثائق وإثبات الاستغلال المستمر، إما يجعل الأمر لدى القضاء يبقى على ما هو عليه، أو يُثبت الحق لغير صاحبه، إعمالا لمبدأ "الحيازة هي سند الملكية".

وفي وجه واقع كهذا تقف عجلات التنمية محتارة أحيانا بخصوص أي طريق تسلكه، إذ وعلاوة على أن نمط ملكية الأراضي في الكثير من الدول العربية ليس كمثيله في دول شمال الكوكب، حيث الملكيات هناك غالبا إما تنتمي إلى القطاع العام أو الخاص، وهنا توجد أنواع لا حصر لها من الملكيات، بقدر التطور البطيء لمجتمعاتنا من الطابع الزراعي التقليدي نحو طبائع أخرى، غير أن هذا ليس هو المشكل الوحيد الذي لطالما جعل الاستثمارات الصناعية والتجارية تقف مكتوفة الأيدي حياله، أو تتراجع قبل الإقدام على وضع حجرها الأساس، فمجرد الشعور بأنه يمكن أن ينبري يوما ما مُطالب بحق في أرض كانت ملكيتها تؤول إليه طوال سنوات، أو تؤول لعقود وربما قرون لأسلافه، هو سبب كاف بدوره لكي يجعل الاستثمار إياه يُحجم عن الإقدام على أي خطوة، لا سيما وهذا الأخير هو بطبعه "جبان" وهش حيال المشاكل والمخاطر.

وعلى صعيد آخر، فأي ثقة يمكن للمواطن العربي أن ينشدها في المؤسسات القانونية، والوثائق المؤسسة على الحقوق التاريخية قد تصبح ليس لها أي حجية، وبدون فائدة، أمام سند الحيازة والتصرف المستمر، وما هذه في النهاية إلا اختلالات قد يساندها القانون طالما أن من يقوم بها هو إنسان بلغ في نفسه البؤس الأخلاقي مداه، وسانده بضع "كذبة" قد حازوا في اعتبار القانون صفة "شهود"، في حين يقف الاجتماع السياسي برمته على وقع المفارقة المؤلمة بين الدفاع عن وحدة أراضي الأوطان التي قد تتآمر عليها مرتزقة الداخل وأعداء الخارج، بمنطق الحيازة الطارئة الساقطة تلك، وبين الوقوف في وجه ممارسة لا تختلف عن ذلك كثيرا يُقدم عليها الأفراد داخل الوطن الواحد حيال حقوق بعضهم البعض، ويساندها القانون أحيانا كثيرة.