الأولى تسلكها الولايات المُتحدة، وتقوم على أوسع مروحة من "الصبر الاستراتيجي، عبر غض النظر عما تفعله الأذرع الإيرانية في شتى بؤر المنطقة، والإيحاء بالضغط على مناوئي إيران الإقليميين، بما في ذلك إسرائيل نفسها. على النقيض من ذلك تماماً، فأن إيران عادة لممارسة نفس الأدوات والسلوكيات التقليدية، التي كانت قد هدأتها نسبياً خلال الشهور الثلاثة الأخيرة من عُمر الإدارة الأميركية الأخيرة، عادت لسلوك نفس الأدوات من اليمن إلى لبنان، مروراً بأربيل ودمشق.

الخبيرة في المجلس الأطلسي كيرستن فونتينروز، عبرت في منشور لها عن أُس التفكير الاستراتيجي للإدارة الحالية، موجهة لولماً مباشراً لفريق الحُكم: "على إدارة بايدن أن تعلم أن مد غصن الزيتون إلى النظام في طهران لا يؤثر على هدف إيران الرئيسي، المتمثل في إخراج الولايات المتحدة من المنطقة، وأن ذلك لا ولن يغير من أساليبهم في متابعته".

ثلاثة مناسبات رئيسية، شكلت دلالة على تهافت ذلك الشكل من العلاقة بين الطرفين، أو بمعنى ما عن لا جدوى تلك النمطية وعدم قدرتها على تحقيق أي مردود سياسي، قادر على ضبط السلوك السياسي الإيراني، عبر تحويلها إلى "دولة عادية"، بالذات في علاقتها مع الكيانات الشرق أوسطية الاخرى، عبر احترام اشكال السيادة التي تتمتع بها تلك الدول.

شكل التوافق الأميركي الإيراني بشأن العراق، في السنة الأولى من عُمر أدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2009 أولى تلك المناسبات. فالولايات المُتحدة وقتها، اعتبرت أن انسحابها العسكري من العراق سيكون مطمئناً لإيران، وسيشكل حافزاً حيوياً لها لأن تحترم السيادة العراقية كدولة مستقلة. لكن على العكس تماماً، فقد فرضت إيران خيارها القسري على العراقيين عقب الانتخابات البرلمانية عام 2010، والتي جاءت مناهضة لنفوذ إيران والقوى الأساسية الموالية لها. كذلك فرضت إيران تعاملاً طائفياً مع تظاهرات ومطالب أبناء المناطق الوسطى والغربية من العراق.

تكرر الأمر نفسه أثناء السنوات الأولى من هبة الربيع العربي (2011-2012). فقد غالبت الولايات المتحدة، ومعها أغلب القوى الغربية الموالية لها، غالباً ميلاً لعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول التي شهدت تلك الهبة، بالضبط كما فعلت مع الثورة الخضراء التي شهدتها إيران قبل ذلك بقرابة عام واضح، متأملة أن تقود الديناميكيات الداخلية في هذه الدول ودون أي تدخل لرسم مساراتها. شهور قليلة، وليس سنوات، حتى قادت إيران تدخلاً مفتوحاً وعنيفاً في مختلف البلدان التي شهدت ذلك، في سوريا واليمن ولبنان والعراق، وحتى في مصر وتونس، ودائماً في الدفة التي قادت نحو الصراعات الأهلية والأثنية، في تحوير واضح وتام لمرامي ومسارات تلك الهبة.

توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة (5+1) كانت آخر الدلالات على ذلك. فالعقل الباطني لذلك الاتفاق كان يعتقد بأن معاهدة دولية مثل تلك، ستكون محفزاً لإحداث تغيير جوهري في نواة السلطة الإيرانية، عبر طمأنتها من طرف باستبعاد أي عمل عسكري ضدها، ومنح إيران مليارات الدولارات المجمدة لتطويرها اقتصادياً.

لكن الذي جرى كان على العكس تماماً. فقط سارعت إيران لتطوير أنظمتها الصاروخية الباليستية، مع سعي حثيث للاستمرار في شراء المزيد من الأنظمة الدفاعية. في وقت ضاع فيه أكثر من مائة مليار دولار في بحيرة الفساد، وفوق ذلك لم تقبل إيران بتهدئة أية ساحة إقليمية محيطة بها، بل زادت من حالات التصعيد في كل المستويات.

الجوهري في الأدوات التي تستخدمها الإدارة الأميركية الراهنة هو عدم انتباهها، أو عدم رغبتها في الانتباه إلى ثلاثة مرتكزات في بنية السلطة الحاكمة في إيران.

فهذه النواة ترى أن اشكال التصعيد وخلق البؤر بالنسبة لها هو مركز ومصدر الشرعية والأمن الذاتي، حتى لا تتدفق أو تتصاعد أي مشكلة داخلية يمكن أن تواجهها. فوق ذلك، فأن السلطة الجوهرية في إيران تعتقد بأن استطالات نفوذها هو جزء من الأمن القومي، التي يمكنها أن تُجبر الدول الكبرى لأن تتفاوض وتساوم مع إيران، فتلك الاستطالات حسب السلطة الحاكمة هي "أصل" القوة بالنسبة لعلاقاتها الإقليمية والدولية، ذلك الأصل الذي يمكن تهدئته، لا يُستغنى عنه.

أخيراً، فأن أداة "حسن النية" يفترض أن المصالح العليا للدولة والمجتمع الإيراني تفوق أية مصلحة أخرى، وهو منطق صحيح في الدول التي تملك مؤسسات معقولة للدولة و"الحُكم الرشيد"، وليس لغيرها.