يجد النّظام هذا جذوره التّاريخيّة الحديثة في القرن التّاسع عشر، منذ الإقرار العثمانيّ لنظام المتصرّفيّة – بموافقة الدّول الغربيّة الستّ الكبرى آنئذ – عقب حوادث الصّدام الطائفيّ. ولكن، ومن غير حاجةٍ إلى التّذكير بتلك الجذور، يكفي القول إنّ على مبدئِه كان مَبْنَى "الميثاق الوطنيّ" الشّفهيّ للعام 1943، والتّرجماتُ الماديّة السّياسيّة في شكلِ هندسةٍ لسلطة مُتَقَاسَمة - بحصصٍ متفاوتة – بين الطّوائف الكبرى في البلاد.

ولم يغيّر من رسوخ طائفيّة النّظام وتَقاسُمِ السّلطة أنّ دستور لبنان بَدَا نائيًا بنفسه عن منطق العصبيّات، ناصًّا على مدنيّة الدّولة وعلى المواطنيّة؛ فلقد أَحْكم العُرف الطّائفيّ سلطانَه الطاغي على المبادئ الدّستوريّة وفرضَ أحكامه على المجتمع، وقد عثَر لنفسه عن حُماةٍ ورعاة: في الداخل كما في الخارج، يَحْدِبون عليه ويعيدون إنتاجَه.

والحقُ أنّ النّظام الطّائفيّ هذا ما كان ليتمتّع بهذه القدرة على البقاء والتّجدُّد لولا أنّه أُحيطَ بالحماية الكافية له من أخطار التّطويح به. ويمكن، في المعرض هذا، أن نشير إلى لحْظات/أطوار ثلاثة  مرّ بها نظامُه المناعي، هي في الوقت عينِه أشكال ثلاثة لحمايته والدّفاع عنه:

أُولى تلك اللّحظات هي الحماية الخارجيّة. كان النّظام الطّائفي هذا في حاجة مستمرّة إلى الحماية: في طور التّكوين كما في أطوار الأزمة. ولقد وفّرتْها له الدّولة العثمانيّة ثمّ فرنسا اللّتان بذرتَا بذرةَ الطائفيّة فيه بعد عزله كمجالٍ ترابيّ عن سوريّة، وصولاً إلى الإعلان الفرنسيّ عن نشوء "لبنان الكبير" في العام 1920. وحين سلّمت فرنسا باستقلاله، في العام 1943، كانت قد هندستْ – عمليًّا -  نظام توزيع السّلطة فيه على مقتضًى طائفيّ لم يلبث التّقاسمُ الشّفهيّ أن أخرجه إلى النّور في صيغة ميثاقيّة بين رؤساء الطّوائف وزعاماتها السّياسيّة. وما كانت فرنسا وحدها تحمي النّظام هذا، خاصّةً في هزّاته التي تعرَّض لها، بل شارك محيطُه العربيّ في ذلك: بعد الحرب الداخليّة لعام 1958، لتنتهيّ أزمتُه بتسويةٍ جاءت بالرئيس فؤاد شهاب بمباركةٍ مصريّة؛ ثمّ بعد حرب العام 1975 التي أقرّ مؤتمرا القاهرة والرّياض العربيّان برنامجًا لإدارة أزمتها قضى بإرسال قوّات ردعٍ عربيّة، قبل التّسليم العمليّ لسوريّة بإدارتها.

أمّا حين انعقد مؤتمر الطائف ليُنهيَ الأزمة في لبنان فلم يغيّر شيئًا في المحتوى الطّائفيّ للنّظام (وإن أوصى بإلغاء الطائفيّة السّياسيّة)، وإنّما عدَّل في حصص الطّوائف وأقرّها مناصفةً مع تحجيم سلطات رئيس الجمهوريّ (=الحصّة المسيحيّة والمارونيّة) ونَقْل أكثرها إلى مجلس الوزراء (حيث تمثيل الطّوائف جميعِها أو معظمها). وكان على هذا النّظام الطّائفيّ المعدَّل أن يجد له مَن يحميه ويفرضُه، بعد حربٍ داخليّة انتهت إلى غالبٍ ومغلوب؛ وكان على سورية أن تنهض بدور رعاية هذه الصّيغة من نظام التسويّة الطّائفيّة لما يزيد عن خمسة عشر عامًا إلى حين انسحاب قوّاتها المسلّحة في ربيع 2005: بعيد اغتيّال الرئيس الحريري.

ثاني لحظات النّظام المناعيّ للطّائفيّة في لبنان انتصابُ قوًى داخليّة – أنجبها النّظام الطّائفيّ عينُه – متشكّلةٍ من زعامات طائفيّة، سياسيّة ودينيّة، مستفيدةٍ من الرَّيْع النّاجم من توزيع حصص السّلطة والثّروة على الطّوائف كي تدافع عن امتيازاتها؛ من طريق الدّفاع عن النّظام الذي يولِّد تلك الامتيازات ويعيد إنتاجها: النّظام الطّائفيّ. في اللّحظة هذه من تطوّر هذا النّظام، توطّد الأخير في الدّاخل السّياسيّ اللّبنانيّ، وباتت له أسنانُه والأظافر يدْفع بها الخطر عليه في وجه إرادة تغييره وقوى تلك الإرادة، على هشاشة عُودِها وفَقْر مواردها، بل بَدَا وكأنّه في غيرِ حاجة إلى حمايةٍ له من خارج أو، قُل، إنّه لم يعد يَطْلبها أو يستقدمها إلاّ متى شعُر أنّ اختلالاً مّا بدأ يطرأ على المعادلات الدّاخليّة المرسومة فيهدّد بإطاحتها.

وفد تغذّت قوّةُ المؤسّسات الطّائفيّة بموردٍ دفاعيّ جديد، منذ نهاية النّصف الأوّل من السّبعينيّات، هو السّلاح الأهليّ؛ حيث أقامت أجهزتها المليشياويّة وخاضت بها معارك الدّفاع عن "حقوقها" وامتيازاتها في النّظام، وعزّزت بها قدراتها التّفاوضيّة بما فيها القدرة على إملاء شروطها على خصومها: الطائفيّين منهم ممّن يقاسمونها حروبَها، والمناهضين للطّائفيّة باسم العلمنة أو باسم المواطنيّة والدّولة المدنيّة. ويكفي تعبيرًا عن اشتداد بأس هذه البنية التحتيّة الطائفيّة الدّاخليّة أنّها استطاعت الحفاظ على هذا النّظام وحمايته من أخطار التّغيير، بل تضامنت قُواها جميعًا لتعطيل أهمّ بنود "اتّفاق الطّائف": إلغاء الطّائفيّة السّياسيّة.

أمّا ثالث اللّحظات وأخطرُها فلحظةُ الاستبطان اللّبنانيّ الجماعيّ للفكرة الطّائفيّة، والتّشبّع – الثّقافيّ والنّفسيّ – بها، فالتّنزُّل منزلة القوّة الاجتماعيّة الهائلة الحادبةِ عليها الحارسة لبقائها أساسًا عليه يكون مَبْنى النّظام والاجتماع السّياسيّ في لبنان. ومكْمَن الخطورة في هذه اللّحظة في أنّ الطّائفيّة تعثُر فيها على "شرعيّةٍ شعبيّة" تكون لها ظهيرًا في مواجهة مطالب التّغيير المدنيّ، ممّا تصبح معه شأنًا "إجماعيًّا" بمثابة المقدّس السّياسيّ الذي يَحْرُمُ انتهاكُه؛ خاصّةً في مجتمعٍ لم يتوقّف، طوال السّتينيّات والسبعينيّات، كما اليوم، عن إنجاب حركات مطالَبةٍ بالتّغيير المدنيّ الديمقراطيّ للنّظام، وعن حشر الزّعامات الطّائفيّة في الموقع الدّفاعيّ.

كان النّظام الطّائفي، في شكله الأوّل: متوقّفًا على حمايةٍ ورعايةٍ من خارِج لكي يبقى ويستقيم له وجودٌ واشتغال.  ثمّ بات محميًّا بقواهُ الدّاخليّة الطّائفيّة، مسخِّرةً لذلك مؤسّساتها اللاّهوتيّة والفقهائيّة والإيديولوجيّة – الإعلاميّة والحزبيّة والمليشياويّة . وها هو، اليوم، يجد في الجمهور الشّعبيّ العريض درعَه الدّفاعيّ الأمتن، المُناضِل عنه بالغالي والنّفيس: الدّم! مؤسّساته وأحزابُه، اليوم، في آمَنِ حالٍ منها؛ ف"جماهيرُها" تنوب عنها في الكفاح دفاعًا عن حُرمة المَعبد الطائفيّ.

ما الذي قضى بأن تنتهيَ انتفاضة 17 أكتوبر 2019 إلى ما انتهت إليه من مآلات؟ لقد تكسّرت موْجاتُ مطالبها المدنيّة على صخرة هذا الامتناع الطائفيّ المَهُول.