فلسفيا يمكننا أن نقول إنها جاءت من نفس المنطقة الفكرية التي أتت منها أفكار لا تقل غرابة واستحقاقا للاستنكار كتفوق العرق الأوروبي الأبيض على الملونين، والتي آمن بها الاستعمار الأوروبي والنظام العنصري البائد في جنوب إفريقيا، أو تفوق الجنس الآري التي نادى بها نازيو ألمانيا الهتلرية، أو أي معتقدات عنصرية مماثلة..

ولكننا هنا لسنا بصدد التفلسف بل التتبع التاريخي للظاهرة.

فثمة نماذج عنصرية بائدة كانت لها أسبابها المفهومة رغم استمرار إدانتنا لها أخلاقيا وعقلانيا وعلميا.. منها عنصرية الفرس تجاه العرب، فالفرس نظروا لأنفسهم باعتبارهم أصحاب حضارة عظيمة، حتى إذا ما آذنت شمس إمبراطوريتهم بالغروب وسيطر عليها العرب، استمر في كثير من الفرس شعور بالتعالي على العرب والاستنكار لسيادتهم، وهو ما ترجمه أبو لؤلؤة الفارسي في ارتكابه جريمة اغتيال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وهي أول جريمة عنصرية في تاريخ الإسلام، ثم في حركة الشعوبية العنصرية خلال العصر العباسي، وأخيرا في سياسات النظام الإيراني الحالي الذي يغلف تعصبه الفارسي بهالة دينية مذهبية .

إذاً فهذا النموذج من العنصرية قائم على فكرة "استعادة المجد القديم".. وهو -كما قلت-يبقى نموذجا عنصريا مرفوضا لكنه مع ذلك مفهوم..

أما فكرة "تفوق العرق التركي" فهي غير مفهومة.. فمتى كانت للعرق التركي حضارة بغير فضل لأعراق أخرى عليها؟ ألم تقم حضارة السلاجقة على تعاون السلاجقة الأتراك مع العرب والفرس؟ ألم تقم دولة الزنكيين الترك على تعاونهم مع الأيوبيين الأكراد؟ ألم يربِّ هؤلاء الأيوبيون المماليك من عرق الترك صغارا حتى إذا ما دار الزمان دورته ورثوا مُلك آل أيوب؟

إن القارئ لتاريخ الحضارة الإسلامية يدرك بغير عناء استحالة فصل التاريخ الحضاري لبعض الأعراق المكونة لها عن البعض الآخر، فمن أين أتت إذاً فكرة تفوق العرق التركي على أعراق تضافرت معا لإقامة أعظم حضارة عرفها التاريخ الوسيط، وأعني هنا الحضارة الإسلامية، وقبل تلك الحضارة هل كان للتُرك من ذكر أو شأن في سجلات التاريخ الحضاري؟

إن هذا يقودني لتفسير قد يراه القارئ للوهلة الأولى مبالغا فيه، ألا وهو "الحيل الدفاعية النفسية"

بلى.. فلو تتبعنا ما يمكنني وصفه بـ"تاريخ العنصرية التركية" لوجدنا أنها كانت دوما تقوم على الشعور بالنقص ومحاولة تعويض هذا الشعور بسلوكيات عدوانية..

فالتهميش العثماني للعنصر العربي والسعي لسحق إرادة العرب وضرب أي محاولة منهم للنهوض والارتقاء ما هي إلا ترجمة للشعور العثماني بعدم القدرة على منافسة الطاقات الحضارية العربية التي لو انطلقت من عقالها لكشفت مدى الفقر الحضاري العثماني..

والحركة الطورانية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وما تبعها من محاولات التتريك والحرب الضارية على الإثنيات العربية واليونانية والأرمنية وغيرها، ما هي إلا ترجمة لهذا الشعور بالنقص إزاء شعوب ذات باع طويل في الحضارة والرقي الفكري والعلمي والسياسي..

بل وما اندفاع مصطفى كمال أتاتورك لمحو الهوية الإسلامية إلا ترجمة لذلك النقص، فمشكلة هذا الرجل لم تكن مع الإسلام كديانة وإنما مع ارتباطه بالثقافة العربية، حتى أنني كثيرا ما أقول إن رسول الإسلام لو كان تركيا لاندفع أتاتورك إلى مزيد من "أسلمة الدولة"!

من نفس هذا الشعور بالنقص جاءت فكرة منظمة الذئاب الرمادية، ففكرها التأسيسي يقوم على الإعلاء من النوع التركي مقابل معاداة الأنواع الأخرى من عرب وأكراد وأرمن وغيرهم، بل وحتى الأتراك الذين يرفضون فكر هذه المنظمة المتطرفة قد دخلوا في دائرة نقمتها!

والنقص المؤدي لهذه النماذج من العنصرية التركية إنما هو المميز للفكر "غير السوي" عن ذلك المتحضر، فالمتحضر يسعى للتفوق ببذل الجهد والتعب والعرق والدم لبناء تجربة حضارية تستحق الاحترام، أما صاحب الفكر غير السوي فهو يحاول هدم ومحاربة أي تجارب حضارية أخرى ووصمها بكل نقيصة وإظهار أن العالم يحاربه فقط لأنه هو! ويغلف ذلك بالفكرة الهزلية لتفوقه العرقي.. تلك الفكرة التي طالما حاربتها الأخلاق وفضحها العلم وأدانتها الأديان..

الأمر يشبه سباقا، يسعى كل متسابق فيه للتفوق على أقرانه بمجهوده وتعبه بينما يقرر أحد هؤلاء المتسابقين عرقلة منافسيه ووضع العوائق أمامهم لتعويض عجزه عن مجاراتهم.

من تلك المنطقة النفسية المظلمة وُلِدَت فكرة منظمة الذئاب الرمادية في ذهن الإرهابي العنصري ألب أرسلان توركيش في مطلع ستينيات القرن العشرين.

وللحديث بقية...