وكان على كلّ من رأى في نفسه مواهب المخلّص أن يشكّك في مسلّماتٍ، هي دين كل الأيديولوجيّات، ويحدّد موقفه النقدي من واقعٍ مغلولٍ بأشراك هذه الأيديولوجيات. وأحسب أن مشروع النيهوم الفكري كان، في الأساس، قائماً على التشكيك لا في شأن الأيديولوجيات وحدها، ولكن التشكيك في المسلّمات إجمالاً، كما يليق بكل محاولة إصلاح، قضى لها المنطق أن تعتنق التحدّي ديناً، إذا شاءت أن تعصم نفسها من تهمة الصَّبْيَنة الفكرية التي لم تكن ظاهرة مجتمع حديث العهد بالاستقلال السياسي وحسب، ولكنها كانت أفيون الواقع الحداثي؛ لأن الروح الصبيانية من الطبيعي أن تتهدّد كل جيل يقف في مفترق طرق، يبدو التحرر من المسئولية الأخلاقية، التي نسمّيها اعتداداً بالواجب، في نشاطه طبيعة ثانية؛ وهو عطبٌ ينزّه النموذج النيهومي عن سوء نيّة، في حاجةٍ لشهادة الواقع كي يحظى بفرمان أصالة. فالسؤال هو: هل يكفي التحلّي بالتمرّد، الذي كان آنذاك سمة العصر، أن يبرّئ ذمّة ذلك الإنسان الذي أخذ على عاتقه وزر تولّي زمام أمر أناسٍ أراد لهم هويّة رعيّة تقبل أن تُساق إلى جنّاته بالسلاسل ككل رعيّة؟

هل استطاع نموذج في مقام صادق النيهوم أن يغير ما بنفسه إلى الحدّ الذي يقامر فيه بتغيير ما بالعالم؟ هل يكفي اعتناق الانضباط ديناً، لكي يحقّ له أن يحقّق معجزة البعث، التي تؤهلنا لأن نتمرّد على ناموس الطبيعة، فنلد أنفسنا من أنفسنا للمرّة الثانية، لنملك الحقّ في أن نتباهى بميلاد الروح بفضلنا، لا بفضل أمّنا الطبيعة التي أوجدتنا في المرة الأولى بمشيئتها، التي لا فضل لنا فيها، ولم نشأها لأنفسنا، لأنها صنيع الميلاد بالجسد، لا الميلاد بالروح؟

إذا كانت صدمة اليُتم الحرفي، المتمثّل في فَقد الأمّ، قد لعبت دور البطولة في أيقاظ مارد اليُتم في بُعده الوجودي في روح الرجل، فإن الصدمة الكفيلة بإيقاظ التوق لخوض جحيم تجربة الميلاد الثاني قد حلّت بعد فوات الأوان، لأن المرض، الذي نصّبه باسكال معلّماً يفوق في السطوة كل معلّم، قد أقبل أخيراً، لا ليلقّن "صادقاً" درس البعث، الملقّب في الأدبيّات الدينيّة بـ"الميلاد الثاني"، ولكن ليُجير الرجل من ألم الإحساس بالوجود، المترجَم في حرف البقاء قيد الوجود، ليختطفه إلى ملكوت البُعد المفقود، فأحسن له، عندما عصمه، بهذا الخلاص، من التورّط في الخصومة مع عالمٍ، هو، في نهاية المطاف، باطل أباطيل؛ وبرغم هذه العصمة لم يفلح صادق في أن ينجو بجلده من شرّ هذا العالم، فلاحقه لينهش لحمه حتى بعد أن تحرّر، وصار في جوف التراب رميماً، ليصدق في عالمنا حكم الحكيم الذي وصفه فقال أن دينه أن يقتل أولئك الذين أقبلوا عليه، ولا يهنأ بالاً ما لم يجرح حتى المدبرين عنه! فلا نجاة من قصاص العالم، لمن احتال عليه الحظّ فأنزله حضيض هذا العالم.

فلماذا يؤكل لحم الإنسان حتى وهو يرقد في مثواه الأخير؟

من الطبيعي أن يتعرّض نموذج مثل صادق لحملات نهش اللحم ميّتاً أيضاً، وهو الذي لم ينجُ من هذا النهش حيّاً، لسببٍ بسيط وهو أنه لم يعتد أن يتلو صلواته في معبد أية أيديولوجيا.

وألاّ يعتنق الإنسان دين أيّة أيديولوجيا يعني أنه، في عرف الأيديولوجيا: عدوّ. فالأيديولوجيا تستطيع أن تتسامح مع معتنقي أية أيديولوجيات أخرى، ولكنها لا تتسامح أبداً في شأن الإنسان الطليق الذي يرفض الانتماء إلى أيّ معقل أيديولوجي من حيث المبدأ؛ لأن خطورة هذا النموذج إنّما تكمن في مبدئيّة الموقف من طينة هذه المحافل التي لم تكتفِ بأن تكون تقليعة تلك الأعوام، ولكنها كانت أفيون واقع تلك الأزمان.

ذلك أن الأيديولوجيا تريد أن تلقّن النموذج حقيقتها، وتستنكر أن يُقبل النموذج على ساحتها، حاملاً في الجعبة حقيقته. والنيهوم لم يهدهد في القلب حقيقة تُنال مسبقاً، لأنه يرفض التلقين بالسليقة، ولم يكن له أن يعترف بالحقيقة التي يتلقّاها في صيغة هبة مجّانية، لأنه لن يضمن ألاّ تتحوّل في تجربته لعنةً تفترس فيه حلماً كان لأمثاله، من أبناء الجيل، قدس أقداس، لأن الحلم رهان أحرار، أما هبة المجّان، التي نتلقّاها بمشيئة شبح الحظوظ، فسفسافٌ يليق بالخدم. والتجربة برهنت حقاً على حقيقة أن كل هواة الحقيقة المجّانية، من معتنقي الأيديولوجيات، هم طينة خدم!

ولهذا السبب اختار ارتياد الخطر، باختيار حقيقة الحُلم. والحلم دوماً هو اعتناق دين التحدّي الذي لا يغفره العالم.

العالم بعبعٌ أنانيّ يستغلّ جهلنا بحقيقته، فيمارس علينا سطوته، ليملي الشروط الظالمة في حقّ كل من تجاسر واعتنق دين حقيقته هو، وخرج يوماً من بيت أمه وأبيه، متنكّباً حلمه. لأن وجود هذا النموذج إنما يسكن هذا الحلم في الواقع. ورهان الحقيقة يسكن هذا الوجود. ومن الطبيعي أن تتنامى عناصر الدراما، فيصطدم مريد الحلم بواقع عالمٍ مسكون بالمؤامرة مسبقاً، ولا سبيل لتغيير ما بهذا الواقع، المنتحل لهوية البعبع، كي يُفزع، إلاّ لتغيير ما بالنفس، لأن هذا الواقع العالمي الذي نعوّل عليه، ونحسبه حقيقياً، إنّما هو شبح للعالم الذي يسكننا، ضربٌ من ظلٍّ للأصل الذي نجهله في أنفسنا، ولا نقوّض حججه ما لم نعامله كظلّ، كشبح، كانعكاس للذخيرة التي تسكننا، التي يجب أن نراهن عليها، لأنها ليست سوى الحقيقة التي نطلبها خارجنا، ونتوهّم أنها تتخفّى وراء قناع الشبح الجاثم على واقع وجودنا، وسوف تتبدّى على حقيقتها، حال احتكامنا إلى حقيقة تغيير ما بالنفس، كي ينقشع الشبح، لتنكسر المقاومة في ترسانة جلّادٍ اسمه العالم.

ولكن الوعي بالتغيير، في بُعْد ما بالنفس، مغامرة رهينة التجربة التي لا تهرع لنجدتنا في مقتبل العمر، حيث ترابط جنّية اسمها "البوهيميا"، التي تلعب دور طائر النحس الذهبي الذي يستدرج الصغار إلى التيه في أساطير الطوارق.

فكما الأيديولوجيا أفيون ذوي النفوس العبودية، كذلك البوهيميا أفيون الأحرار الذي آلوا على أنفسهم أن يتحدّوا العالم، لتحقيق أحلامٍ هيهات أن يعترف لهم بها العالم. وكان على صادق أن يدفع المكوس أيضاً ليعبر جحيم البوهيميا، وهو المطهّر الذي لم يغفره له الخصوم من سدنة الأيديولوجيا. ومن الطبيعي أن يستخدموه في حقه حجّةً، وهم الذين تفنّنوا دوماً في اختلاق الحجج، واستخدامها كذرائع، بوصفهم الأوصياء على التقوى، سيّما بعد أن يئسوا من استدراج الرجل للارتواء من مياه آبارٍ أوتيتْ القدرة على محو الذاكرة، ومسخ الروح، لتبلغ المبارزة الذروة مع نشر دراسة "الرمز في القرآن" التي لم تكتفِ بإحداث القطيعة مع الفريق الديني وحده، ولكنها استفزّت النظام السياسي القائم (الملكي)، ليستودع الرجل الإقامة الجبرية أمداً، قبل أن يخرج من هناك بهوية الطريد، ولكن ليس قبل أن يخضع لفسحة استشفاء، تلقّى خلالها أجناس الفتوى على أيدي فقهاء المؤسسة الدينية الذين انتُدبوا خصّيصاً لهذا الغرض، كي ينال صكّ غفرانٍ يبيح له التحرر من الأسر.

كانت تلك التجربة بمثابة البند الأول في صحيفة القصاص، جزاء خطيئة التفكير خارج منظومة القيم السائدة، مما يُعدّ مساساً بالعَصَب الذي يعوّل عليه مجتمع بسيط، يعتمد قناعاته ناموساً لوجوده، في تلك المرحلة المبكّرة من عهد استقلالٍ، كان له بمثابة بعث من عدمٍ هيمن في واقعه قروناً.

تزامنت هذه الزوبعة مع انعقاد مؤتمر أدباء المغرب العربي في مارس 1969، الذي ساهم فيه صادق ببحثٍ جريء، ليعود من الجلسات إلى مقامه الإجباري في الفندق. فكنت أزوره في معتقله ذاك، ليعبّر لي بمرارة عن خيبة أمله جرّاء المسرحية الهزلية التي فرضتها في حقّه السلطات، وكان عليه أن يخضع لجلسات غسل الذاكرة صاغراً، دون أن يملك الحقّ في اعتراض، أو حتى في استفهام، مجبراً بأن يتلقّى الدرس صامتاً كي يستعيد صوابه، ويحظى بالغفران، بهذا العمل التلقيني، القمعي، المثير للسخرية. فلم أجد ما أعبّر به عن تعاطفي مع الرجل سوى الاستجواب الذي أجريته معه، ونشرته بمجلّة "الإذاعة" آنذاك، تناول تجربة صادق الإنسان، بعيداً عن ديانات يراها حكراً على الفقهاء، وخارج منظومات أنظمة سياسية تنعم باحتكار السلطات، فلا تكتفي، ولكنها تسنّ التحريم على حق التعبير، لتضمن الاستمرار في احتكار الحقيقة، بعد أن انتهت من احتكار السلطة.

فهل كان صادق صادقاً مع نفسه، في سعيه لتحقيق حلم وجوده، أم أنه تبلبل نتيجة تقاطع مشروعه الإبداعي مع مشروع فكره السياسي؟

خصامٌ يستطيع أن يكتشفه كل من تسنّى له قراءة أعمال إبداعية مثل: "سبع قصص للأطفال، أو "الحيوانات" أو "من مكّة إلى هنا" أو "القرود"، ليقارنها بدراساته التي ترجمت هاجساً لجوجاً يمكننا اختزاله في كلمة واحدة هي: الجامع. هذا "الجامع" هو ما صار له في المرحلة التالية أفيوناً، سخّر له أعواماً، التهمت النصيب الأوفر من عمرٍ لم يمهله طويلاً. فعقب تجربته المؤلمة مع سدنة الفكر الديني الرسمي، جاهر برغبته في توبة ساخرة، معلناً الإقلاع عن خوض مغامرة تأويل الكتب المقدّسة، بعد أن صارت غنيمة محتكرة من قبل أهل الفقه، كما يروقه أن ينعتهم، في دراسة معنونة بـ"العودة المحزنة إلى البحر" ليجد نفسه يتعامل مع الفكر الإنساني بالتعويذة الوحيدة المتاحة وهي الفلسفة، التي لم يتردّد في أن يحطّ من قدرها، بالمقارنة مع ذخائر المتون المقدّسة المحرّمة، متعمّداً رجم الفلسفة بصفة "القمامة" إمعاناً في الاستخفاف من قدرتها على تأدية الدور المرجو. فما راق الصادق في تلك المرحلة هو تسفيه مواهب الفلسفة، فيما إذا قورنت بسلطان حجج النصّ الديني، الذي حرمته السلطة الدينية، المتحالفة مع السلطة السياسية، متعة استخدامه في بحثه عن الحقيقة، أو بالأصحّ، في بحثه عن نفسه!

ولكننا نستبق الزمن عندما نتحدث عن سيرة "الجامع"، لأن علينا أن ننتظر أعواماً أُخر كي تتفتّح ملامح الهاجس في صيغة مشروع تنويري، يلبّي نداء الظمأ إلى التغيير، كما أراد له المريد أن يكون. فالكل آنذاك كان محموماً بحلم التغيير. الكل مفتون بخلاصٍ ذي بُعدٍ مجهول، لا يلبث أن يستنزل في هذا البُعد روحاً غيبيّة نزّهته عن حضيض الواقع الحرفيّ، ليستعير هوية الفردوس المفقود. ففي أزمنة الاستقرار التي شهدها وطن تلك المرحلة من نظام سياسي ملكي قام على أنقاض واقع اغترب عن الحرية لقرون، ليحيا بحبوحة اقتصادية مفاجئة، حققتها عائدات النفط، لابدّ أن يستيقظ في النفوس القلق المؤدّي إلى نشوب الخصومة مع النفس، قبل أن تنتحل هذه الوسوسة هوية الخصام مع النظام القائم، سواء في بعده السياسي، أو الاجتماعي. ففي مفاصل المنعطفات التاريخية نلاحظ دوماً كيف يلوّح كل فرد. بحجّته، مترجماً في حرفها التحدّي، كي يبرهن حضور على خريطة الوجود، في واقعٍ يتبارى فيه الجميع بهزليّتهم، التي تعتنق دين دون كيخوت، دون أن يتخيّل الكل المفاجأة الغادرة التي تنتظر هؤلاء الأشقياء من وراء تفييرٍ لم يحدث أن حمل في أعطافه الخلاص.

فما لم يخطر ببال هذا المريد هو ما أفضى إليه التوق إلى السلطة، فنشهد فُحش فاتورة المكوس. فالتضحية بشعرية الأسطورة، والتنازل عن جماليّة العمق الميثولوجي، المترجم في أعمال مبكّرة، شجاعة، مثل "سبع قصص للأطفال"، أو "الحيوانات"، لنرى كيف تتحطم هذه الجوهرة على صلد عتبة بعبع هو "الجامع"، الذي استهوى الرجل ليستدرجه إلى المتاهة التي ابتلعت مشروعاً إبداعياً واعداً، تَمَّ طرحه قرباناً  لشراء الوهم الطفولي باستعادة الفردوس المفقود بعون السلطة الدنيوية، ليحاكي بذلك حالماً آخر هو أفلاطون، الذي ظنّ أن طاغية صقلية يستطيع أن يحقّق له حلم استنزال دولته الفاضلة من رحاب البُعد الضائع، لتنتصب حقيقةً حسيّة أرضيّة، لتنتهي الصفقة المزعومة إلى إخفاقٍ منكر، كاد إمام الحكمة القديم أن يدفع حياته ثمناً له.

وكان من الطبيعي أن ينتظر صادق تغييراً كما انتظره الحالمون من أبناء الجيل. ولكن التغيير عندما أقبل لم يأتِ ليلبّي نداء الحالمين من أبناء الجيل، ولكنه أتى بحجّته هو، لا بحجّة مريدي الأحلام، المناوئين للمتاح، والمفتونين بهبات المجّان. تنزّل على واقع الوطن ذلك الجنس المريب من التغيير، الذي يعادي بطبيعته آمال الحالمين الرومانسيين، فيُقبل ليلقّنهم درساً في خطورة الحلم بأيّ تغييرٍ يحلّ في أرضنا من خارج تخوم واقعنا الروحي، متجاهلاً حقيقةً تسكننا، لا تكفّ عن تنبيهنا بزيف أيّ تغييرٍ مستعارٍ من مجهول، نناله هبةً مجّان، ولا يخضع لناموس التغيير الوحيد الذي نستطيع أن نراهن عليه وهو: تغيير ما بالنفس، لأنه رهان سلطان الروح، التي نستوطنها، لا رهان شبحٍ نسكنه هو العالم. العالم المعادي الذي لا يمنّ علينا بهباته ليخلّصنا، ولكن لكي يبتلينا: يبتلينا بأمانينا عندما يحقّق لنا أمانينا!

حلّ في رحاب الوطن التغيير، ملبّياً نداء الحلم في وجدان جيل القلق، الذي لم يوجد ليؤكد اللقية التي ارتوت بنزيف الآباء، ولكنه انبثق ليهدم ما ابتناه الآباء، لكي يحقق رسالته في نفي الآباء، كما يليق بملّة الأبناء.

ولما كانت الثورات مبدعة مفارقات، فمن الطبيعي أن ينقضّ فرسان التغيير في ليبيا على النخبة الوطنية لتستودع رموزها قفص الاتهام منذ أول يوم بدعوى مسئوليتها على إطالة عمر نظام كل خطيئته أنه ملكي، وأن يكون ملكيّاً يعني أنه رجعيّ، وأن يكون رجعياً يعني أنه فاسد، وفساده هو مبرر كافٍ لمحوه من الخارطة، في وقتٍ لم يتوقّع أحد أن ينتهي هذا الموقف العبثي المسبق من الإنتلجنسيا الوطنية إلى محاكمات فعلية، علنيّة، منقولة تلفزيونياً على الهواء مباشرةً، في مسلسلٍ هزليٍّ أذيع على حلقات ليكون الليبيون له شهود عيان طوال عام 1972.

 إنها صحيفة معقّدة الحيثيات، امتزج في بنودها منطق خطاب مجبول بالمسّ الأيديولوجي، الناجم عن مرارة الإحساس بالقمع الاستعماري الموصول، الذي من المنطقي أن يخلّف عداوةً لا تلبث أن تنقلب عُصاباً، في روح جيلٍ مبلبل بحمّى الشعارات السياسية التي عصفت بالمشرق، لتنتقل العدوى إلى كل الأطراف الظامئة إلى الفوز بترياقٍ لمداواة جراح هوية نزفت طويلاً، وآن الأوان لكي تصحو، لا لتلملم جراحها، ولكن لتمارس القمع ضدّ أقليّات أصليّة شاركت الأمّة مصابها الاغترابي بفعل هيمنة مستعمر القرون، لتجد نفسها، في ظل التغيير الجديد، ضحيّةً من جديد، بوصفها هوية من طينة أخرى، عليها أن تتنصّل منها إذا شاءت أن تجد لها مكاناً في الواقع الثوري الجديد. وهي النزعة التي جاهر بها خطاب مجلس الثورة منذ أول يوم واعتمدها في برنامجه كمبدأ، لتكون النخبة في حملة المسّ أول الضحايا كما ترجمه الموقف من الفكر، ومن حملة على الفكر، المبثوث في حرف روح العداء الذي قوبلت به مرافعة إنسانٍ حاول، بحسن نيّة، تصحيح سوء الفهم بشأن دور أهل الفكر في التمهيد لحلم التغيير، مستشهداً بالثورة الفرنسية (كما فعل محرر هذا البيان في أول مؤتمر صحفي عالمي يعقده المجلس بطرابلس في سبتمبر 1969)، ليفاجأ باستنكار رئيس المجلس بتلك اللهجة العدوانية التي حوّلت الجدل إلى معركة حقيقية منقولة على الهواء، مازالت وثيقة تاريخية ترقد في الأرشيف بالصوت والصورة. وبرغم ذلك لم يجد المجلس مفرّاً من الاعتراف بوجود نخبة، وهو ما حتّم الاعتراف بوجوب محاورة هذه النخبة. وهو ما أفضى إلى انعقاد ندوة "الفكر الثوري" بطرابلس أوائل 1970 ليلعب فيها صادق النيهوم دور القطب في مناقشة بنودها على مدى أسبوعٍ كامل.

قبل ميعاد انعقاد الندوة بأيام أقبل صادق من هلسنكي تلبيةً للدعوة الموجّهة إليه من قبل اللجنة المنظمة للندوة. وها هو الاغتراب، الذي كان قاسمنا المشترك، يجمع بيننا في الحاضرة، لنُمضي أسبوعاً تبادلنا فيه غربتينا، كما يليق بملل الغرباء الذين لا تقبلهم الأمكنة إلاّ كأضياف، ولكن تبادل هوية كالاغتراب حجّة كافية تشفع لبناء صرح علاقة؛ علاقة ذات صلاحية بأن تستعير بُعد الصداقة. ولم يكن الواقع الطبيعي ليكتفي بلعب دور شاهد العيان في مثل هذه الصفقة المقدّسة، لأنه شريكٌ في كل ما يمكن أن يمتّ بصلة لتحرير بنود ميثاق هو في العرف عهد.

ها هي المدينة القديمة، بأسوارها الناطقة بذخيرة الزمن الضائع، تحتضننا في جولاتنا المسائية، فتستضيفنا في أزقّتها الضيّقة التي تقود إلى معالم أثريّة مازالت تتحدّى النسيان، فتتغنّى بالشهادة على أمجادٍ فانية، لينتصب قوس الإمبراطور الوحيد الحكيم في كل الأزمنة ماركوس أوريليوس، ذي الأفي عام، المطوّق بحزام التماثيل الأسطورية السخيّة كأنها قلادة شعرية ملفّقة من تمائم سحرية نصّبتها الآلهة لتكون على الحرم حرَساً يجير النصب التليد من بطش شبح الغدر الذي آلى على نفسه ألاّ يصالح أحداً على سلمٍ، وهو: الزمن!

النصب التذكاري، المنمنم بالتماثيل المنحوتة في صلده المُعجز، يتطلّع في وقفته المكابرة نحو أفق الشمال المغمور بالبحر، يختطّ البرزخ الفاصل بينهما أجمل كورنيش على شواطئ المتوسّط قاطبة، قبل أن تفترس أنياب التغيير قوام هذا الكورنيش الآسر، الهاجع كوشاحٍ خرافيّ في جيد المدينة العريقة، التي أقبل عليها كلٌّ منّا، لتحتوينا في رحابها المضيافة، كما اعتادت أن تفعل مع أمثالنا منذ الأزل، لتكون لكلينا وطناً بديلاً لمسقط الرأس، ولكن مجرّد حضورها، في واقعنا الحرفيّ، لم يكتفِ بأن يكون ضماناً للوصل، ولكنه أبَى إلاّ أن يكون الملاذ الذي نستجير به لنحقّق فيه الانتماء.

وها هي طرابلس، أويا الخالدة، التي عجزت حوليات التاريخ في تحديد ميلاد نشأتها، تحتضننا في خلوة تلك المرّة، لتكون لنا دليلاً حميماً، الحلول فيه صار في حياتنا تقليداً طوال الأعوام التالية، نقدّم له فروض الولاء كلّما زعزعنا شجن اغترابنا الأبديّ، فنهرع إلى أمّ هذا الوطن الشقيّ، لنتبادل في فردوسها أشجاننا، كما يليق بكل سليلين ضالّين! وهو الشعر الذي لم تكن عواصم العالم لتشتري مفعوله بالنسبة لكلينا: لا هلسنكي، ولا موسكو، لا بيروت، ولا جنيف، لأن التواصل في عواصم الأغراب مغامرة خطرة لا تهوّن اغتراباً، ولكنها تضاعف اغتراباً. وطرابلس وحدها ظلّت طوال هذه العقود الترياق الذي يوقف نزيفنا الروحي كلّما تُبْنا، ولو لحين، عن طوافنا بعيداً عنها، فنعود لنتشبّث بتلابيبها طلباً للغفران.