ولم تكن تلك حالُ هذا الاستشراق على صعيد الثّقافة الجمعيّة حصراً، بل هي كانت كذلك حتّى على صعيد البيئات الجامعيّة والأكاديميّة الغربيّة التي لم تعد تحفظ الكثير ولا القليل من التّقاليد العلميّة للاستشراق، على الأقلّ منذ سبعينيّات القرن العشرين، بل التي أهملتْها وحاصرتْها ولم تعد تستدخلها في جملة عُدّة الدّراسات الشَّرقيّة فيها.

أمّا الأعمال العلميّة المميَّزة التي ظهرت، في غضون الخمسين عاماً الأخيرة، لدارسين غربيّين للشّرق، خاصّةً في مجال الإسلاميّات، فكانت فرديّة في معظمها غير مرتبطة ببرامج جامعات أو مؤسسات بحثيّة.

وإلى ذلك فإنّ سياسات الدّول الغربيّة توقّفت، منذ زمنٍ مديد، عن أن تعتمد إنتاج هذا الاستشراق العلميّ مادةً تشتّقُّ منها سياساتها تجاه عالم الشّرق الآسيويّ، وبلدان العالميْن العربيّ والإسلاميّ على وجه الخصوص، في الوقت عينِه الذي كانت فيه موجات هذا الاستشراق تشهد على حالٍ من الانحسار حادّة.

لم يكنِ الاستشراقُ الإيديولوجيّ، في الأثناء، قد حظيَ بإمكان الاستمرار في الوجود، لارتفاع أسباب وجوده (المدّ الكولونياليّ)، لكنّه لم يَخْتَف إلاّ بعد أن رسّخ تقاليدَه وتَرَك بصماته في الدّراسات العربيّة والدّراسات الإسلاميّة في الغرب.

ولقد أتى جيلٌ، بل جِيلان، من الباحثين الغربيّين يَرِثون منه بعض تَرِكته وينسجون على منواله، ولكن في حدودٍ أضيق من تلك التي تحرَّك فيها هو قبْلاً؛ فالباحثون الغربيّون الجدد في الإسلام ومجتمعاته لا يضاهون سابقيهم المستشرقين في معرفتهم بتراثه ومصادره الفكريّة، وهُم - إلى ذلك- أكثر اعتناء بالحركات والممارسات من اعتنائهم بالأفكار والمنظومات الفكريّة من الأوّلين.

ثمّ إنّ دارسي الإسلام، اليوم، ليسوا فلاسفة ولا مؤرخين ولا دارسين لتاريخ الأديان، بل علماء اجتماعٍ وسياسة واستراتيجيا وصِحفيّون و، بالتّالي، فعلاقتُهم بموضوع الدّرس مختلفة لاختلاف هواجسهم وجدول أعمالهم.

إذا كانت الدّراسات الغربيّة الرّاهنة عن الإسلام قد ورثت من الاستشراق الإيديولوجيّ شيئاً، فهي ورثت نظرته الضيّقة وأحكامَه القِيَميّة وروح العداء للموضوع المدروس. أمّا سوى ذلك من الاهتمام بالمصادر والمتون والمظانّ، والنّزعة التّاريخيّة في التّفكير، والمنهج الفيلولوجي في التّحقيق والدّرس، فاطَّرحتْهُ جانباً ولم تأبه لأمره. حتّى أنّ أكثر دارسي اليوم من الغربيّين لا يُلِمُّ، الإلمام الكافي، بلغات الإسلام (العربيّة، الفارسيّة، التركيّة، الأورديّة، الكرديّة...) واللّغات المحيطة (السّريانيّة، العبريّة، اليونانيّة القديمة، اللاّتينيّة...)، ومَن يعرف العربيّة منهم يُلمّ باللّهجات العاميّة أكثر من إلمامه بالفصحى. ولذلك علاقة بنوع التكوين الذي تلقَّاه هؤلاء الدّارسون المعاصرون -في حقبة ما بعد عنفوان الاستشراق- وبنوع الموضوع الذي يتناولونه بالدّراسة.

فأمّا نوعُ التّكوين فهو ذاك المستمدّ من برامج التّأهيل الأميركيّة للدّارسين - الذي يجري تعميمُه في أوروبا من أسفٍ شديد؛ والذي يقوم على اعتماد مناهج العلوم الاجتماعيّة ودراسة الظّاهرات والممارسات، لا الأفكار والتّراثات- وتقديم دوراتِ تكوينٍ لغويّة لبضعة شهور لتأهيل الباحثين.

كان المستشرقون؛ منذ جيل أنطون إسحق سيلڤستر دوساسي- في نهاية القرن 18- إلى جيل جاك بيرك ومكسيم رودنسون وڤان إس (نهاية القرن 20- بداية القرن 21)، أوروبيّين متخرّجين من كبرى جامعات ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وهولندا والنمسا وإيطاليا والسويد وبلجيكا...، حيث التّقاليد العلميّة التّاريخانيّة: دراسة النصوص وتحقيقها، والمعرفة العميقة بلغات الشّرق والإسلام وتأريخ المادّة المدروسة والعلم بالسّياقات والدّراسة المقارِنة بالأديان التّوحيديّة والفلسفات والثّقافات المحيطة.

وكانت دراسةُ مفكّرٍ أو مدرسةٍ أو تيّار تأخذ من الواحد منهم سنوات قد تبلغ، في بعض الحالات، رُبْع قرن. أمّا اليوم، فالتّكوين«الحديث» لا يؤهِّل باحثاً إلى إنجاز عُشر أعشار ما كان يسعُ مستشرقاً أوروبيّاً إنجازه، نظراً لضحالته. هكذا انتقلنا من المعرفة (الاستشراقيّة) إلى الخبرة؛ من المستشرقين العلماء إلى الخبراء!

وأمّا نوع الموضوع فاختلف؛ كان المستشرقون -علماؤُهم والإيديولوجيّون منهم- يدرسون الإسلام بوصفه تراثاً يعودون فيه إلى الأصول: نصوص العقيدة والشّريعة والعلوم الشّرعيّة والعقليّة والآداب واللّغة والنّحو وعلوم الطّبيعة، ناهيك بالتّاريخ السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ... الخ. أمّا «خبراء» اليوم من الباحثين الغربيّين، في ميادين علم الاجتماع والعلوم السّياسيّة، فالإسلام عندهم اخْتُزِل من دينٍ وحضارةٍ وتراثٍ ثقافيّ إلى مجرّد جماعات «الإسلام الحزبيّ»! منتهى عِلمهم به معرفة تاريخ هذه الجماعة (خلال عقود أو سنين) وأسماء قادتها وأمرائها وسيرهم، وأدبيّاتها! وليس في هذا مبْعث حطٍّ من الإسلام ومعناه، فقط، بل فيه حطٌّ فظيع بمستوى المعرفة الغربيّة بالإسلام ونوعيّتها!

ومن أسفٍ أنّ السّياسات الرّسميّة الغربيّة تجاه العالميْن العربيّ والإسلاميّ لا تصغي إلاّ إلى هذا النّوع من الخبراء، ولا تعمل إلاّ بهدْيٍ من أفكارهم وتوصيّاتهم، مغدقةً الدّعم على معاهدهم ومراكزهم، موليةً الظهر للعلماء الحقيقيّين الذين قَلُّوا - لسببٍ هو تجفيف ينابيعهم- وضَؤُلَ، لقلّتهم، نفوذُهم. وهذا كلُّه ممّا يعزّز ترسيخ الكثير من التّمثّلات المغلوطة عن الإسلام والعرب والصُّور المنمَّطة عنهم.