أفردت جريدة "لوموند" الفرنسية صفحاتها قبل 4 عقود لمقابلة أجرتها مع روح الله الخميني حين كان لاجئا في ضاحية نوفل لو شاتو القريبة من باريس. عَدَّ المؤرخون هذه المقابلة واحدة من أعراض رعاية الغرب لإسلام جديد يطيح بشاه إيران، وربما يطيح بعروش كثيرة في المنطقة.

لاحقاً، سلط هذا الغرب مجهرا مضيئا على الإسلام "المجاهد" في أفغانستان. كانت الصحافة الغربية تدفع بمراسليها لاكتشاف هذه المخلوقات التي تزلزل الصرح السوفياتي، فيما رجال السياسة يحجّون، خصوصا في مواسم الانتخابات، إلى تلك البلاد استجداء لصور يلتقطونها مع ذلك الإسلام المعادي للشيوعية المتماهي مع ما يفعله معادو الشيوعية في العالم.

بات الإسلام جزءا لا يتجزء من السياسة الخارجية الغربية. بعدها بات الإسلام جزءا من السجال الداخلي، لا سيما في أوروبا وخصوصا في فرنسا. المسلمون أنفسهم في بلدان الغرب (فرنسا أبرزهم) لم يفهموا كثيرا هذا الاهتمام الإيجابي أو السلبي بهم. بعضهم اكتشف "مجاهدي" أفغانستان وهم الذين (أي المسلمون) ربما كانوا مناصرين للاتحاد السوفياتي بصفته "حليف" قضايا المقهورين في العالم، كما اكتشفوا (أي المسلمون أيضا) قادة "الجماعات" الذين باتت عواصم هذا الغرب تحتضنهم بعد أن ارتكبوا أو اتهموا بارتكاب كبائر الإرهاب في بلدان.

اشتغل الغرب كثيرا على جعل الإسلام منتجاً سياسيا يستخدمه في حكاياته الاستعمارية السابقة او في رؤاه الجيوستراتيجية الراهنة واللاحقة (راجع بريد هيلاري كلينتون الالكتروني المفرج عنه). لطالما قاتلت المنطقة منذ بدايات القرن الماضي إسلامها السياسي وكافحت "جماعاته"، فيما وجد هذا "الإسلام" و تلك "الجماعات" سقوفا ورعاية ودعما ومآوٍ داخل عواصم هذا الغرب وما تحيكه غرف الحكم هناك. وحين انقلب السحر على الساحر لم يُجرِ هذا الغرب مراجعة للمقاربته الإسلاموية الفاشلة، بل بدا أن الاستسهال يقود إلى تأثيم الإسلام بصفته ديناً ذا علّة.

حين انفجر ما أطلق عليه "ربيعا" في المدن العربية، جاء الحل من الغرب حاسماً. تولت الأوبامية في عهد الرئيس الأميركي السابق التبشير بـ "الاسلام المعتدل" كأداة لرد "الاسلام المتطرف". بكلمة أخرى أجرى الغرب إعادة قراءة تصنيفية تتمسك بما ينفع السياسة الخارجية بغض النظر عما يراه العرب والمسلمون خيرا لهم. كان المكافحون لفجور "الجماعات" في منطقتنا يرددون لهذا الغرب أن ذلك "التطرف خرج من عباءة ذلك الإسلام السياسي الذي تبشرون به معتدلاً". حتى أن في باريس ولندن وبرلين وواشنطن من وجد في طهران خامنئي وأنقرة أردوغان عناوين مغرية لحكم منطقة تعذر ضبطها.

فجأة تكتشف الولايات المتحدة وأوروبا أن "الاعتدال الإسلامي" الذي بشّرت بها الأوبامية، سواء في تدبير اتفاق مع إيران أو النفخ بالأردوغانية في تركيا، بات مصدر القلاقل الأول في الشرق الأوسط وصولا إلى منطقة القوقاز وشرق البحر المتوسط. باتت أوروبا محاصرة بالهلالين الإيراني والتركي اللذين يصدّران "الجماعات" وقودا داخل صراعات المنطقة ويطرقون أبواب الحاضرات الكبرى في أوروبا.

ضربت تلك "الجماعات" على نحو دموي موجع داخل فرنسا، لكنها ضربت قبل ذلك، بنسخها المختلفة، في الجزائر والمغرب ومصر  والسعودية ولبنان وبلدان أخرى، ليكلل تنظيم داعش جرائمها في العراق وسوريا وبلدان أخرى. 

اكتشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الإسلام يعيش أزمة في العالم ويُنتج أوراما انفصالية خبيثة. لم يفهم المستعربون ودارسو الإسلام الغربيين، وخصوصا الفرنسيين منهم (أوليفيه روا وجيل كيبيل مثالا)، قماشة ما توصل إليه ماكرون. في بالهم أن الإسلام واقع حضاري شأنه شأن واقع الحضارات الأخرى، وأنه تعايش أيضا مع هذا الغرب الذي يستعمره حينا، ويستعمله حينا آخر، ويحاضر به حينا ثالث، ويكتشف به العلل هذه الأيام.

اشتغل العالم الإسلامي، بأنظمته وحكوماته وشعوبه ومجتمعاته ومثقفيه، على مكافحة التطرف ومواجهة التعصب ومقاتلة الإرهاب. باتت هذه "الجماعات" في طور الضمور والاندثار، على الرغم من دينامية الدعم المستمر المستوحاة من أجندات المرشد والسلطان. وفي هذه اللحظة التي يدافع فيها الدين عن نفسه ويعمل على تنقية نصّه وتطهير صفوفه من خطاب ضخّه الإسلام السياسي (بنسختيه السنية والشيعية) برعاية غربية ملتبسة، يأتي من باريس من يعتبر أن الإسلام في أزمة.

يبقى أن الرد المسلم ليس مفيداً، ذلك أن الأطروحة غربية مرتبطة بأجندات السياسة الداخلية، وسيتم دحضها غربيا، ومن فرنسا بالذات، وعبر أجندات السياسة الداخلية أيضا. نعم الإسلام في أزمة تسببها جماعاته ومسيّسوه ومشوّهو نصوصه، لكن ربما أيضا  يجوز السؤال عما إذا كان اكتشاف باريس أن الإسلام في أزمة، يسلط الضوء على عجز بنيوي داخل المنظومة العلمانية التي باتت قاصرة عن فهم الدين في تاريخ البشر.