وإذا كانت ثورة العشرين مثلت الخيار الثوري العسكري لتحقيق هذا الاستقلال، فإن فشلها في هذا الأمر، ساهم بإنضاج خيارات سلمية من خلال بروز حركة استقلالية واسعة من سكان المدن وشيوخ العشائر ورجال الدين دفعت هدف الاستقلال إلى واجهة السياسة.

كانت الإضافة الأخيرة والمهمة لهذه الحركة الاستقلالية في داخل العراق هي الساسة الشريفيون وهؤلاء معظمهم ضباط عثمانيون عراقيو الأصل، عملوا مع فيصل بن الحسين، أثناء ثورة الحجاز ضد الأتراك في 1916، ثم رافقوه في سوريا أثناء حكمه القصير هناك، لينتظموا أخيراً تحت قيادته مرة اخرى لحكم العراق في ظل الوصاية البريطانية. بحكم مواقعهم الحكومية في الدولة الجديدة وتشكلهم الثقافي والسياسي الليبرالي عموماً، بانفتاحه النسبي على الغرب، وفهمهم المختلف للسياسة الدولية مقارنة ببقية الحركة الاستقلالية التي كانت تميل الى المواجهة المباشرة مع البريطانيين.

كان نزوع هؤلاء الساسة وزعيمهم فيصل، هو التعاون مع بريطانيا والاستفادة منها في بناء الدولة الجديدة والدفاع عنها، والانتزاع التدريجي للحقوق منها وصولاً الى الاستقلال. عُرِفَ هذا النهج في السياسة التي برع فيها الملك فيصل بـ "خذ وطالب" أي خذ ما هو ممكن الآن ثم طالب بشيء آخر هو مستحيل حالياً، لكنه سيصبح ممكناً  فيما بعد.

وهكذا برز من رحم هذا النضال الاستقلالي الذي دام نحو 13 عاماً، تياران في التفكير والسياسة بالعراق، ما يزالان حاضرين اليوم بأشكال مختلفة، وإن لم تتمثل بأطر حزبية ومؤسساتية واضحة: الأول تيار مثالي يزاوج بين ما هو أخلاقي وما هو أيديولوجي في تحقيق المطالب السياسية التي يعدها مشروعة .

ويتميز هذا التيار باستعداده للمواجهة كوسيلة مناسبة للحصول على الحقوقـ مَثَّلَ هذا التيار عموماً، وبدرجات مختلفة، رجال الدين وشيوخ العشائر وافندية المدن، أما  التيار الآخر فهو براغماتي يعتمد على الوقائع والحقائق في صياغة مواقفه ومطالباته السياسية،  ويؤمن بالتعاون والمساومات للوصول إلى تحقيق المطالب، ومَثَّلَ هذا التيار الملك فيصل والساسة الشريفيون وقوى ليبرالية أخرى مثل الحزب الديموقراطي بزعامة كامل الجادرجي.

في العموم، كان التيار المثالي غالباً ومهيمناً شعبياً ويتهم التيار البراغماتي بتهم مختلفة تتراوح بين العمالة والضعف والتردد والتهاون مع الأجنبي على حساب مصالح البلد المشروعة، فيما ينزع أنصار التيار البراغماتي إلى إتهام خصومهم المثاليين بالجهل والدوغمائية والتهور.

برغم التداخل وغياب الحدود الفاصلة الواضحة بينهما في إطار ألحركة الاستقلالية وخارجها، تصارع هذان التياران كثيراً وتبادلا الاتهامات في لحظات كثيرة وتعاونا في لحظات أقل إلى أن تحقق الاستقلال، لتنشأ بعده صراعات أخرى مختلفة بين التيارين.

اكتشف الملك فيصل ومعاونوه سريعا قوة التيار المثالي، فبعد اشتراطه على البريطانيين، لقبوله تولي ملك العراق، تنظيمَ العلاقة بين بريطانياً والعراق من خلال معاهدة ثنائية بدلاً من نظام انتداب صريح مكروه عراقياً، وافق البريطانيون التفاوض على معاهدة عراقية- بريطانية تعطي العلاقة بين الطرفين طابع التعاون والمساواة الشكلية، وليس الهيمنة القانونية الصريحة. لكن سرعان ما اكتشف فيصل أن المعاهدة المقترحة تحمل كل شروط الانتداب بلغة مخففة.

إزاء الضغوط البريطانية لم يستطع فيصل أن يغير كثيراً في بنود المعاهدة، لكنه، بالضد من الرغبة البريطانية، أصرَ على تفويض شعبي بخصوصها  عبر اشتراط المصادقة عليها من خلال مجلس تأسيسي  منتخب لم يكن قد تشكل بعد. في أكتوبر 1922، عندما وافق مجلس الوزراء برئاسة عبد الرحمن النقيب على المعاهدة ونشرت بنودها، بانتظار تشكيل المجلس التأسيسي الذي سيصوت عليها، تشكلت سريعاً جداً معارضة شعبية واسعة لها عبر هجوم الصحف عليها وتنظيم التجمعات الاحتجاجية في الجوامع والحسينيات والمظاهرات الضخمة في الشوارع ضدها.

بلغت ذروة المعارضة بإصدار كبار المجتهدين الشيعة (كمهدي الخالصي، وحسين النائيني، وأبو الحسن الاصفهاني) في نهاية 1922 فتاوى تحرم المشاركة بانتخابات المجلس التأسيسي ما أدى الى فشل الحكومة في تنظيم الانتخابات لأكثر من عام، بعد حصول التفاف شعبي كبير حول هذه الفتاوى، خصوصاً من جانب شيوخ العشائر في الفرات الأوسط الذين اعتبروا هذه الفتاوى امتدادا لنضالهم لتحقيق الاستقلال الذي بدأوه قبل ثورة العشرين.

على الجانب الآخر، كان الملك فيصل والحكومة خاضعين لضغط بريطاني شديد ملخصه إما المصادقة على المعاهدة أو خسارة الموصل، التي لم تكن عائديتها محسومة، لتركيا التي كانت تطالب بها. هذا فضلاً عن الإعلان البريطاني أمام عصبة الأمم باستعداد بريطانيا اتباع سبل أخرى في إدارة العراق في حال رفض الأخير المعاهدة وذلك  في إشارة مبطنة لحكم عسكري بريطاني مباشر وصولاً للتلويح للملك فيصل باستعداد بريطانيا لخلعه من حكم العراق بعد تقربه الواضح من الاستقلاليين الرافضين للمعاهدة.

في ظل إدراك الملك فيصل والساسة الشريفيين حاجة العراق، كبلد ضعيف وناشئ، لبريطانيا للحفاظ على وحدة أراضيه والدفاع عنه ضد الاعتداءات الخارجية (حسب المادة الثامنة من المعاهدة الرئيسية والمادة الثامنة من البروتوكول الملحق بها) والحفاظ على النظام الملكي القائم، تبنت الحكومة نهجاً براغماتياً في التعاطي مع الرفض الشعبي الواسع للمعاهدة. تبدى هذا النهج في أمرين متلازمين. الأول هو استخدام هذا الرفض إزاء البريطانيين لتحسين بنود المعاهدة وتطبيقاتها بأقصى ما يمكن.

والثاني هو تفتيت جبهة المعارضين للمعاهدة كي يتسنى إجراء الانتخابات وتشكيل المجلس التأسيسي للمصادقة عليها.

نجحت الحكومة في الأمرين بعد بذلها جهداً شاقاً ومتواصلاً. أدركت حكومة عبد المحسن السعدون الأولى التي تشكلت في نوفمبر 1922 بهدف أساسي هو تفكيك جبهة الرفض الشعبي للمعاهدة والتمهيد لإجراء الانتخابات، أن دوافع المعترضين مختلفة وهو ما يجب الاستفادة منه. فقررت مجابهة بعضهم قانونياً، وفرض اعتبارات واقعية على البعض الآخر منهم تجبرهم على التخلي عن تعاطيهم المثالي مع موضوع المعاهدة والاستقلال. وهكذا، بالتنسيق مع الملك فيصل والمندوب السامي بيرسي كوكس، قدمت الحكومة إغراءات لشيوخ الفرات الأوسط، قبلوها، تمثلت بتخفيضات ضريبية ووعود بمنح أراض زراعية لهم وإلغاء العقوبات التي لحقت بهم جراء اشتراكهم في ثورة العشرين، مقابل سحب تأييدهم لفتاوى تحريم المشاركة بالانتخابات وحث افراد عشائرهم على المشاركة فيها.

أما المجتهدون فكانت دوافعهم لإصدار فتاوى التحريم دينية وليست وطنية، إذ كانت المعاهدة تعني لهم امتداداً آخر لمفهوم ولاية غير المسلم على المسلم التي حرمها المرجع الديني الكبير محمد تقي الشيرازي في فتواه الشهيرة في 1919 إبان الاستفتاء البريطاني على شكل الحكم في العراق.

كانت أولوية الدوافع الدينية على الوطنية واضحة أيضاً عندما أصدر الشيخ مهدي الخالصي، في ربيع 1923، فتوى تحرم القتال ضد الأتراك الذين سيطرت قواتهم على منطقة العمادية، وكانت تتهيأ للزحف نحو الموصل. أيد بعض كبار المجتهدين في النجف وكربلاء فتوى الخالصي هذه ودعوا الناس إلى الامتناع عن رفع السلاح بوجه الأتراك، قبل أن تشن القوة الجوية الإنجليزية غارات ضد القوات التركية المحتشدة وتجبرها على الانسحاب لينتهي خطر التهديد التركي ضد العراق.  زادت معارضة المجتهدين للمعاهدة ايضاً بسبب سماحها، في مادتها الثانية عشرة، بالتبشير الديني في العراق.

لمواجهة المجتهدين، استغلت الحكومة تعديلاً أجرته على القانون لا يسمح لغير العراقيين بممارسة النشاط السياسي على نحو يؤدي إلى اضطراب الأمن، لتقوم بتسفير الشيخ الخالصي، الذين كان يحمل الجنسية الإيرانية فقط، واثنين من أقاربه إلى ايران إثر مطالبة الشيخ بإغلاق الأسواق والمحلات في الكاظمية واصطدام قَريبيه مع الشرطة المحلية في سياق تحشيد الخالصي ضد اجراء الانتخابات. احتج سبعة من كبار المجتهدين من ذوي الأصول الإيرانية على قرار الحكومة تسفير الخالصي، وقرروا، تضامناً معه، مغادرة العراق نحو إيران. اعتبرت الحكومة هذه المغادرة فرصة ذهبية فوفرت قطاراً للمجتهدين ومساعديهم، بحدود أربعين شخصاً، نقلهم إلى إيران.

في آخر المطاف نجحت الحكومة في إجراء الانتخابات وتمرير المعاهدة بعد ضغوطات واضحة وتنازلات ضمنية بريطانية في كيفية تطبيقها. فمثلاً تراجع البريطانيون عن مدة الثلاثين عاماً التي أرادوها في البداية للمعاهدة، لتصبح عملياً أربعة أعوام، وفي موضوع التبشير الديني المسيحي الحساس عراقياً، تعهد البريطانيون ألا يستهدف عمل هذه البعثات التبشيرية المسلمين وإنما يقتصر على المسيحيين العراقيين.

فتح تمرير المعاهدة باب جدل وخلاف عراقي-عراقي شديد تواصل على مدى سنوات بخصوص العلاقة مع بريطانيا ومعنى الاستقلال وبناء الدولة لم يحسمه حتى انتهاء الانتداب البريطاني في أكتوبر 1923، في الحقيقة بعض مصاديق هذا الجدل والخلاف ما يزال حاضراً بقوة في عراق اليوم.

  • يتبع-