لكن يحدث أحيانا، وإن كانت في حالات قليلة جدا، أن يكون أحد المرشحين للرئاسة لا يملك المواصفات اللازمة لشغل المنصب الأهم عالميا، وأهم هذه المواصفات هي الكاريزما القيادية، التي لا علاقة لها بالثقافة والفكر، فهي مهارة فطرية نادرة.

ومن يتابع الإنتخابات الأميركية حاليا يلحظ أن انتخابات هذا العام هي إحدى هذه الحالات القليلة، فالمرشح الديمقراطي جو بايدن سياسي عريق خدم في مجلس الشيوخ، ثم أصبح نائبا للرئيس أوباما، لكن لا تخطئ عين المتابع معاناته في التواصل مع الجمهور، وعدم مقدرته على نسج عبارات مترابطة ومقنعة، وهذا ما جعل الحزب الديمقراطي يضعه تحت رقابة صارمة، بحيث يظهر قليلا ويتحدث بطريقة تشعر المتابع أنه يقرأ من شاشة أمامه أو يتم تلقينه، وبالتالي ارتكب الكثير من الهفوات الموثقة صوتا وصورة.

هذا الظهور الجماهيري الهزيل لبايدن يذكرني بانتخابات أخرى وبمرشح آخر، وسأعود بكم إلى عام 1996 عندما فاز السيناتور عن ولاية كانساس روبرت دول بترشيح الحزب الجمهوري، ضد الرئيس الديمقراطي الشاب الديناميكي الوسيم صاحب الكاريزما الصارخة بيل كلينتون، الذي كان يسعى للفوز بإعادة الانتخاب.

كلما أشاهد ترمب وبايدن حاليا أتذكر كلينتون ودول، فروبرت دول بطل من أبطال الحرب العالمية الثانية وسياسي جيد، انتخب لمجلس النواب ثم لمجلس الشيوخ وسبق له الترشح للرئاسة، كما كان نائبا للمرشح الجمهوري للرئاسة في عام 1976 جيرالد فورد، الذي خسر أمام الديمقراطي جيمي كارتر، لكنه عندما فاز بترشيح الجمهوريين للرئاسة كان شيخا يتجاوز عمره السبعين ولا يتمتع بالمهارات القيادية تماما مثل بايدن حاليا، ولذا فاز عليه كلينتون بسهولة وتحطمت أحلامه بالفوز بالرئاسة، وكنت أتساءل حينها ولا زلت: كيف غامر الجمهوريون بترشيح روبرت دول أمام الشاب كلينتون، الذي أنجز الكثير خلال فترته الرئاسية الأولى، خصوصا ما يتعلق بالازدهار الاقتصادي؟

ذات التساؤل يطرحه كثير من المعلقين والمتابعين وهم يشاهدون بايدن، إذ يصعب حجب الحقيقة في زمننا هذا في ظل التغطيات الإعلامية المباشرة واختراق وسائل التواصل الاجتماعي، فالحزب الديمقراطي على سبيل المثال استطاع إخفاء حقيقة أن الرئيس الشهير فرانكلين روزفلت كان مقعدا، لكن هذا كان في ثلاثينات وأربعينيات القرن الماضي، ولذا فاز روزفلت بالرئاسة 4 مرات، وهو رقم لم ينجزه غيره.

ومع الاعتراف بأن الساحة السياسية الأميركية تعاني نقصا حادا في ساسة العيار الثقيل، فإن هناك ساسة ديمقراطيين من الشباب أفضل كثيرا من بايدن، ومن الممكن أن يقارعوا ترامب بشكل أفضل، لكن الديمقراطيين لهم رؤيتهم الخاصة في الإصرار على دعم بايدن الذي تقاعس حتى أقرب الساسة إليه، أي باراك اوباما، عن دعمه حتى اللحظة الأخيرة، وعندما تيقن أنه فاز بالأصوات اللازمة لترشيح الحزب.

الديمقراطيون مقتنعون أن بايدن هو أفضل من يقارع ترامب بحكم تجربته السياسية الطويلة، مقارنة مع الرئيس الذي لا يمتلك أي خبرة سياسية قبل فوزه بالرئاسة، كما أن لدى بايدن شعبية عريضة خصوصا لدى السود حسب مزاعمهم، وعلاوة على كل ما ذكر، فإن بايدن سبق أن عانى مرضا نفسيا خطيرا بعد وفاة زوجته وابنته في حادث مأسأوي في بداية حياته السياسية، كما سبق أن واجه صعوبات شديدة عندما كشف الإعلام أنه كذب بخصوص دراسته، وانتحل خطابا لزعيم حزب العمال البريطاني الشهير نيل كونيك ونسبه لنفسه، وهناك مقاطع فيديو تبين تكرار تعامله مع السيدات بشكل غير لائق، ومع ذلك فهذه ليست مشكلات رئيسية، فترامب تم اتهامه بالتحرش من عدة سيدات وله تصريحات شاطحة وفي غاية الغرابة، إذ أن المشكلة حاليا تتمحور حول حالته الصحية وعدم مقدرته على التواصل والتعبير بشكل فعال.

فهل سيفاجئ بايدن الجميع ويظهر في المناظرات الرئاسية بشكل مختلف، أم سيثبت كل الشكوك التي تدور حول صحته؟ وفيما إذا استمر أداؤه بائسا، فهل يصح لنا أن نتساءل: هل رشح الديمقراطيون بايدن ليفوز أم ليخسر؟ تساؤل غريب طرحه بعض المعلقين، ولعل المناظرة الرئاسية الأولى نهاية هذا الشهر ستكشف الكثير، وهو ما انتظرناه طويلا!