فقدر الأرجل أن تسعى. في هذا المسعى تمارس طبيعتها كطاقة تنتج نشاطاً مقنّناً، وليس مجرّد حركة، به تقضي حوائج دنيوية، وبه أيضاً تمارس فعلاً قدسياً، غُفْلاً من دَنَس النفع، وهو: الحرية!.

وإنسان البريّة يبيح لنفسه الخروج من وطن الرؤى السماوية البرّي أحياناً، لينزل حضيض الدنيا الواقع وراء جدران ما اعتدنا أن نسمّيه مدنيةً، سواء لقضاء حوائج دنيوية، ذات هوية اقتصادية، أم لمجرد إرواء فضول وجوديّ دسّته فينا الفطرة عندما زوّدتنا بالعدسة السحرية التي لا تشبع من النظر، أو جهاز الحسّ الآخر الذي لا يرتوي من سمعٍ، بفضله تلقّى أخيار كثُر النبوآت من حيث لا يدرون!.

ولمّا كان الفضول دوماً عملاً محفوفاً بالأخطار، فلا أحد يضمن ألاّ تستدرج ذخيرة الأسوار أضيافها بفنون الفتنة، وهي التي كانت دوماً جنّية إغواء، تعتنق دين الشَّرَك، وحتى الشِّرك.

من هنا كانت الوصيّة الدهرية تميمة تجير من الإستسلام لحيل هذه السعلاة التي لا تترك عشاقها إلاّ أمواتاً، أو في أحسن الفروض، أقناناً.

أي أن الرهان هنا يقوم على المقام، لأن من شرب من مياه أرضٍ أربعين يوماً صار عبداً لها، كما يحثّ يقين الرحيل. وخيار المقام هو تنكّرٌ للطينة الأصلية، وخطرٌ باعتناق هوية المكان. أي القبول بروح المكان. واستبدال الهوية، في دين البريّة، هو بمثابة تجديف في حقّ الحرية، واغترابٌ طوعيّ عن الحقيقة.

فالحرص على إبقاء الرأس خارج حصون المعتقل المسمّى عمراناً، في الوصيّة البريّة، تعبيرٌ مجازي للتعجيل بالإنطلاق في طريق العودة. أي قطع حبل النزهة الوقتيّة، والفرار بالذخيرة الروحية، صوناً للوجدان من الزيف المستخدم في واقع الحضيض الحضري كعملة. لأن الرأس هو ما يجب تفويضه في الحملة. وتركه خارجاً إنّما يعني تحكيمه هو، لا تحكيم الأقدام، في كل ما متّ بصلة للهندسة في المغامرة الطائشة، لأن نزول المدن، في يقين إنسان البريّة، دوماً طيشٌ لا يختلف عن نزول الأدغال التي تعجّ بأجناس الحيوانات الوحشية!.

والواقع أن الوصيّة تختزل عقلية الإنسان البرّي، المسكون بالروح الميثولوجية، المعادية بطبيعتها للروح الأيديولوجية. إنه صراع "الميثوس" التليد، مع "الأيدوس"، بحيث نستطيع أن نقول أن "الميثوس"، أو الروح الأسطورية إجمالاً، هي ديانة أهل البريّة، في حين آمن الإنسان الحضري بالأيديولوجيا ديناً، على نحوٍ ختم على طبيعة كلا الفريقين لتحوّلهما نموذجين بشريين مختلفين لا في المسلك وحسب، ولكن في منظومة القيم الأخلاقية أيضاً، بل وفي السجيّة نفسها، وهو سبب العداء التقليدي بين عالمين يفترض أن يظلّا بالمنطق شريكين، ولكن الموقف من الطبيعة، في بعديها البيئي والأخلاقي، فرّق بينهما.

إنها عداوة النموذج الذي رُوّض على المكان، فتدجّن، وبين النموذج الذي تحرر من أسر المكان وظلّ طليقاً يسرح في البيداء الأبدية. إنه عداء النثر لجناب الشعر. عداء قابيل لأخيه هابيل. عداء الكلب للذئب الذي كان بالأمس من طينته نفسها، ولكنه تنكّر لها ليغدو ألدّ أعدائها. فالعداوة، في هذه الحال، سليلة خيانة العهد القديم، المبرم بين الشقيقين الشقيّين قابيل وهابيل، الكلب والكلب الآخر الذي صار بالخيانة ذئباً، لينفرط عقد العهد، ليغترب كلٌّ منهما عن الآخر، فينتصر القديس للفريق الراحل، عندما استنزل فيه إسم "القبيلة الإلهية"، على حساب الفريق الآخر الذي اختار المكان ملاذاً، الملقّب بـ"القبيلة الدنيوية".

فكما نلنا عينين لنرى، وأذنين لنسمع، ومنخرين لنشتمّ، وفمٌ لنمضغ، كذلك نلنا رجلين لنسعى. وعندما يطيب لنا أن نذهب لزيارة القرين القديم في عرينه، فليس لنا أن نعوّل على أن نخلد هناك لمبيت في واقع ندري كم هو فانٍ، ولكننا نمرّ في تلك المجاهل الخطرة مروراً. ننزل تلك الظلمات الموبوءة بالعدوى عبوراً، ننزلها استطلاعاَ، تماماً كما نستطلع الكلأ في سهول البراري، أو نستجلي الكمأ في مواسم الغيوث، شريطة أن نحترس المكوث هناك لأمدٍ كافٍ لحبك فخّ الأسر الآثم، لأن اغتراب الروح فينا رهين الشلل الذي يصيب إرادتنا، فيسطو الشبح الذي يسكن المكان على الرأس فينا، فنتنكّر للحقيقة التي تسكننا.

مازالت السلطات في المملكة الإيبيرية تستميت في سبيل إقناع مواطنيها بالتزام بيوتهم بعد أن احتلّت الجزيرة الرقم الثاني بعد الولايات المتحدة في أعداد المصابين، ولكن.. عبثاً!.

والدليل شاهدناه في إخفاق السلطات مجسّداً في حرف الصدامات بين الفريقين، انتهت مراراً إلى العراك بالأيدي، بين المواطنين ورجال القوى الأمنية بأجناسها الثلاث، مما يبرهن على وجود خلل لا في العلاقة مع القوانين الوضعيّة وحدها، ولكن وجود خلل على مستوى القوانين الأخلاقية أيضاً.

فالمواطن توغّل بعيداً جدا في سبيل الإنحلال. وهو إنحلالٌ وليد الإستهانة بالحدود.
فإطلاق العنان للحريات الفردية، والتغنّي بالحقوق القصوى، من الطبيعي أن ينتهي باعتناق مبدأ آثم وعدميّ مثل: "كل شيء مباح"، الذي أعطى الحقّ لراسكولنيكوف أن يكتم أنفاس إمرأة عجوز، لمجرد أنها مرابية، مادام المنطق لا يحرّم على إنسان مثل بونابرت أن يبيد الملايين! وعلّ المثير في أوروبا الوباء أن تأتي شريحة المهاجرين على رأس القائمة في التمرّد على قوانين الطواريء، لأن عقلية فراو ميركل، في حمّى توقها لدخول بوابة التاريخ، هي مَا وهبهم هذه الحصانة بتلك الفرمانات الطائشة، التي تنتهك لا مباديء قوانين الإتحاد الأوروبي وحدها، ولكن تستبيح النظام الأخلاقي، المستعار من عرّاب العقل البشري "كانط"، الذي كان بمثابة العمود الفقري في كيان الحضارة الأوروبية. ومَنْ أتيحت له الفرصة فشاهد الأشرطة المرئية التي تعرض ما يفعله هؤلاء اللاجئون، الملفوظون من مجاهل الأدغال الروحية قبل الأدغال الطبيعية، في ساحات أوربا وشوارعها ضدّ المواطنين، وضدّ قوى الأمن نفسها، دون أن تحرّك هذه القوى ضدّهم ساكناً، سوف يؤمن كم هو خطيئة لا تغتفر أن تضحّي بالقيمة الأخلاقية، في سبيل نيل قيمةٍ دنيوية، لأن كل ما أهلّ به لغير الله لن يشفع لنا غنيمتنا، ولكنه يتحوّل لعنةً في أعناقنا.

والإحتيال على الحقيقة، التي اعتمدتها الأقدار واقعاً، إثمٌ لن يشتريه السطر المأمول في صحيفة مسكونة بالزور كالتاريخ!
فإذا كانت فراو ميركل تريد أن تقنعنا، من خلال هذه الفرمانات، بتحكيم وصية المسيح في التسامح المترجمة في سيرة الجود بالخدّ الإيمن لمن صفعنا على الخدّ الأيسر، لتبرهن على هويّتها كسليلة كاهن، فتتطهّر من خطايا انتمائها إلى نظامٍ معادٍ للحرية السياسية، كما الحال مع ألمانيا الشرقية، فإن هذه الأقنعة لن تجدي في محكمة الربّ، ما ظلّ شبح التباهي قائماً، وما ظلّ الحافز في الصفقة ليس محبة الله، ولكن الفوز بالسطر البائس في صحيفة الزور، وهي خيانةٌ ليست في حقّ مرتبة دينية كالكهانة وحسب، ولكنها تجديفٌ صريحٌ في حقّ المنظومة الأخلاقية الرائدة التي أقامها كاهنٌ أعظم شأناً من كاهن الكنيسة، هو عمانويل كانط، لتأتي سلفته الشقيّة فتستخفُّ ببنودٍ هي بمثابة حلقة قدسية في عهدٍ مقدس. فآفة الزمان تسكن حرف الروح النفعيّة التي تحوّل العلاقات الإنسانية إلى مجرّد صفقة تجارية. وهي الورم الذي يفترس فينا نداء الروح ويشوّه في نشاطنا الأريحيّة، الناطقة باسم العفويّة.

وأن يهبّ الإنسان للأخذ بيد أخيه الإنسان في زمن المحنة، واجبٌ أخلاقيّ، تسوّقه كل الديانات في تعاليمها، برغم أنه يسكن الطبيعة الإنسانية فطرياً. ولكن الدنس ينال هذا المبدأ ما أن يتحول مشروعاً دنيوياً مجبولاً بأنفاس الصفقة النفعيّة كما الحال مع الإستسلام لإملاءات تجار الجنس البشري الذين لا يتردّدون في أن يخاطروا بحياة الآلاف في قوارب الموت، مراهنين على هوسهم ببلوغ شواطيء يرون فيها الخلاص، هم في الواقع مجرمون يجب أن يحاسبوا على آثامهم، لا أن يجري تشجيعهم بجني المكافآت على استغلالهم لأناسٍ في طبيعتهم يسري نداء عصيّ كالحلم الذي يبدو الطريق إليه أيسر منالاً بالسعي وراءه في البُعد المستلقي خارجنا، بالمقارنة مع سبيل استكشافه في البُعد الذي يسكننا.

وهو ما يعني أن استعدادنا لإيواء مللٍ منكوبةٍ مثل ضحايا الحروب، أو الفئة المضطهدة، أو ذوي الحاجة لصلاةٍ كالعمل، هو واجبٌ إنساني يعادل قِرَى الضيف، أو الإحسان لذي القربى، أو مداواة جريحٍ أنهكه النزيف، حتى لو خرقنا الوصايا القائلة بعمل ما بالوسع كي لا ندع الناس يهجرون أماكنهم، أو الناموس الآخر الذي نصّب الوطن معبوداً، وإضاعته مُصابٌ لا يختلف عن المصاب الذي نفقد بموجبه الوجود. وهو ما يعني أن غياب الوطن، في حياة المخلوق البشري، شرٌّ لا يعوّضه الترف المنتظر وراء البحور، ولا يشتريه استحضار الحلم من رحاب البعد المفقود، كما برهنت اعترافات كل من ارتضى الهجرة وطناً بديلاً للوطن. لأن الإغتراب وحده قصاص، ولم يحدث أن صار خلاصاً حتى في تجارب الأخيار، وإلاّ لما هلك حتى الرسل بداء الحنين!.

وما طعوم الإغراء التي تقدّمها الشرائع التي تأبى إلاّ أن تتظاهر بالإحسان، سوى عقار مضلّل، سيّما في حال غرّب في الإنسان سجاياه الأولى، ليستنبته بذرة غريبة في تربة أخرى، لينقل لها تلك العدوى التي تبلبل حسابات الواقع الجديد ببعديه السلبي والإيجابي، فلا يضمن أحد حدوث الخلل في بُنية واقع لم يُخلق ليكون أرجوحة أحلام تُنال بالمجّان، ولكنه وُجد ليكون ورشةً لإعادة ترميمٍ جذري، لا يتحقّق فيها البعث إلاّ للفئة التي تفوّقت على نفسها، فأنكرت في نفسها تلك الأوهام، التي حسبتها طوال تجربتها، أحلاماً!.

وإلاّ ماذا نسمّي مشهد ذلك المهاجر الإفريقي، الذي بلغ شاطيء النجاة من أهوال أدغاله للتوّ، وهو يسدّد سلسلة من اللكمات، لامرأة من أهل المكان، لتسقط أرضاً، ليعيد الكرّة مراراً ومراراً، دون أن يهرع لنجدتها أحد، لا لذنب اقترفته في حقّ هذا المسخ، ولكن لمجرّد الإستمتاع بسقف الحرية، المكفولة بسقف الحدود القصوى، التي منحتها له إبنة الكاهن مجاناً، كي تكون لها شهادة لدخول التاريخ، في حين يمارس هذا النموذج همجيّته ضدّ مستضيفته الشقيّة، متأثّراً بعدوى الحقوق الفردية المطلقة، دون أن يتخيّل أنه يعود بعجلة التاريخ إلى العصور البدائية، حاملاً في يديه عدوى مميتة، لمجتمع ضحّى كهنة الحقيقة (أمثال كانط) في سبيله كي يحققوا له هذه المنزلة من طينة خلاصٍ مهدّدٍ بجنس عدوى ألعَن، يحملها هذا الضيف في أعطافه، ليكون لأقرانه المثال الذي يُحتذى، لتتحوّل مثل هذه الخطايا، في واقع أوروبا اليوم، ظاهرة شائعة، دفعت شريكاً كبريطانيا، للخروج من قمقم الإتحاد، ليصاب الإنسان الأوروبي نفسه بعدوى هذه الجرثومة، فيستهتر بالقوانين، المفروضة بحرف الجائحة، كما نراه اليوم.

فالهجرة في الأرض حجٌّ مقدّس في كل الديانات، عبر كل الأزمنة، سيّما في بُعدها الرسالي، أو التنويري. وقدسيتها هو ما ينصّبها التزاماً أخلاقيّاً مفروضاً بمشيئة الضمير. والمساس بذخيرتها هذه هو تجديفٌ لا يغتفر في حقّ المعبود الذي جعلها وصيّة للناس، يشقّون بمفتاحها السحري لأنفسهم طريق الخلاص، كلما ألمّ بهم بلاء، أو تنزّلت في واقعهم نازلة. لأن ليس من شيم المهاجر أن يفسد في أرضٍ استجار بها من بليّةٍ، لتجيره من بليّة، كما ليس من شيَم الضيف أن يتطاول على المُضيف، أو يدنّس البيت الذي أطعمه من جوع، وآمنه من خوف، أو يقترف في حقّه آثاماً مستوحاةً من الوصيّة المنكرة: "كل شيء مباح" التي كانت رأس الكبائر حتى وقتٍ قريب، فإذا بها تتحوّل، بعُرف الحداثة، تقليداً، إن لم نقل طبيعةً، حتى إذا زلزلت الأرض زلزالها، ليخضع عالمنا الهشّ لدرس الغيوب، فيضطرّ أولو الأمر لإبطال مفعول وصيّة الضلال، داعياً للإحتكام إلى الإنضباط، كضرورةٍ لضبط هياج الوباء، هَبّ سليل الضلال، ليقيم في الأرض القيّامة احتجاجاً على الحطّ من شأن المُباح، دون أن يتخيّل هذا النموذج أن اللامحدود في هذا المباح، رهين ثمنٍ جسيمٍ، هو القبول بمبدأ الإغتراب عن الحقيقة.