ومع احترامي كل من أعلنوا صدمتهم من هذا المشهد الفج المبتذل، ولكن إسمحوا لي أن أسألكم: أين موطن الدهشة أو الصدمة؟ ألم نعهد العثمانيون القدامى سيوف بلا عقول، والعثمانيون الجدد تجار دعاية دينية فحسب؟

السيف ثم السيف ثم السيف

كل الدول اعتمدت في مرحلة من نشأتها الأولى على السيف، يصدق هذا على حضارات العصور القديمة في مصر والعراق والشام وفارس وبلاد الإغريق وغيرها، يصدق كذلك على حضارة المسلمين والعرب في العصر الوسيط، ولكن.. كان السيف وقتها مجرد أداة لتأسيس نظام حاكم وفرض وجوده، ثم بعد ذلك صار وسيلة حماية لا أكثر بينما جنحت الدولة لعملية "بناء الحضارة" بالعلم والفن والثقافة والتعليم وإقامة نظم الحكم الراقية.. وحتى لو تم توظيف السيف لأغراض توسعية فإن ذلك إنما يكون بالتوازي مع "النشاط الحضاري"

أما العثمانيون فإنهم قد خالفوا ذلك بأن أقاموا دولتهم بالسيف ثم تعطلت عقولهم وطاقاتهم عن توظيفها في تأسيس حضارة أسوة بالدول السابقة-خاصة الأنظمة الإسلامية كالعباسيين والأندلسيين والمماليك-فقط أمسكوا السيف بيد وقالوا "هذا لمن خالفنا" وأمسكوا المصحف بيد آخرى وقالوا "نحن وكلاء الدين في الأرض"، فلكأنما مشهد الخطيب وهو يعتلي المنبر متكئًا على سيفه إنما يمثل فلسفة الدولة العثمانية..

وهو أمر منطقي، فدولة عقمت عن تقديم موروث حضاري للإنسانية وقدمت لها بدلًا منه ميراثًا من الكراهية والتطرف والدموية والعنصرية والتعصب، ماذا لديها لتفخر به سوى السيف؟ وأي فخر عندها أكبر من تحويل كنيسة إلى مسجد بقوة السلاح ثم تقديم الغطاء الديني لذلك وكأنما نسوا أن عمر بن الخطاب-أقوى وأقدر وأعدل خلفاء الجيل الأول من المسلمين-رفض أن يصلي ركعتين في كنيسة خشية أن يقول المسلمين "هنا صلى أمير المؤمنين" ويستولون عليها!

مشهد تخيلي

أحيانًا أسرح بخيالي وأتخيل كل دولة كبرى من دول المسلمين تقدم نفسها في حضور الدولة العثمانية... وأرى المشهد كالآتي:

-الخلافة الراشدة: نحن الخلفاء الراشدين.. نحن الذين أسسنا دولة الإسلام وأمننا شعوب الشرق على دينهم وكنائسهم ومعابدهم وأرواحهم وأموالهم

-العثمانيون: نحن الدولة العلية العثمانية أعادها الله!

-الأمويون: نحن الأمويون.. أقمنا في الشرق دولة قوية وبدأ في عهدنا التعلم من حضارات العالم، ثم أقمنا في الأندلس دولة ذات موروث حضاري كبير من العلوم والفنون والآداب

-العثمانيون: نحن الدولة العلية العثمانية أعادها الله!

-العباسيون: نحن بني العباس.. أسسنا لحركات الترجمة وأنقذنا التراث الإنساني السابق لحضارة المسلمين وحفظناه في وقت كانت فيه أوروبا تحرق كتب الإغريق ثم قدمنا للعالم موروثًا ضخمًا من الفلسفة والطب والكيمياء والفلك والعلوم المختلفة

-العثمانيون: نحن الدولة العلية العثمانية أعادها الله

-المماليك: نحن من أنقذنا بلاد المسلمين والعرب من المغول والفرنجة.. وفتحنا مصر لاستقبال المهاجرين فرارًا من حروبهم وكذلك من الأندلس.. واحتضننا العلماء والفقهاء حتى صارت مصر درة العلم في الشرق... وتركنا موروثًا ضخمًا من العلوم والفنون والآداب والمنشئات

-العثمانيون: نحن الدولة العلية العثمانية أعادها الله!

لا موروث حضاري محترم... لا ذكرى طيبة يتحدث عنها العالم شاكرًا للعثمانيون ما قدموا للإنسانية.. لا علوم وإنجازات علمية يُحفَظ لهم جميلها أسوة بحضارة العرب والمسلمين..

فقط السيف... 

الطيور على أشكالها تقع

ولأن الطيور على أشكالها تقع فلا عجب أن يجذب هذا النموذج من تنحصر "دولة الإسلام" في أذهانهم في مجرد مقاتل يرفع سيفًا على أعداءه وهو يصيح "الله أكبر"، فهي صورة تناسب عقلياتهم المتبلدة وخمول هممهم عن العمل وبناء الحضارة.. فالشخص من هؤلاء إنما هو يستثقل جهد بناء نفسه وبلده ويريد أن يختصر كل ذلك في أن يصبح "بطلا للإسلام" يقضي نهاره في قتال وصدام وغزو وسلب ونهب وليله في حرملك مزدحم بالسبايا.. هو لا يشعر بالقدرة على التكيف مع محيطه ومجتمعه ولا على مجاراة متطلبات التقدم في الحياة من عمل واجتهاد وتكيُف مع الظروف والمتغيرات، فيقرر أن يدمن نوعًا معنويًا من المخدرات هو "نوستالجيا المجد الزائف" وأن يهلل لتاجر وموزع هذا المخدر الذيذ..

من الطبيعي إذن أن يفغر فاه انبهارًا بمشهد ارتقاء الخطيب للمنبر وبيده السيف..

وهو مشهد أعده وكتبه وأخرجه ونفذه أساطين لعبة التحكم في عقول مثل هذا السفيه وهم يدركون جيدًا مكسب كل تفصيلة منه..

بينما مطيتهم لا يدرك أنه إذ يهلل ويكبّر لهذا المشهد فإنما هو يهلل ويكبر لخيبته إذ اختصر كل المجد والعظمة الذان يمكن أن تحققهما دولة في مجرد تحويل كنيسة لجامع.. وكأنما تعب المسلمون والعرب لأكثر من ثمانية قرون ونشروا الحضارة وأقاموا مراكزها من الهند والصين إلى المحيط الأطلنطي ومن جنوب غرب أوروبا إلى وسط أفريقيا فقط ليقرر أحد أحفادهم أن يضرب بكل ذلك عرض الحائط وأن يلخص المجد في سيف ومنبر.. فأية خيبة هذه!