ليفقد انضباطه في أمدٍ قصير، بالمقارنة مع المهلة التي استغرقها الإتحاد في إلحاق الضرر بالإنسان الأوروبي بسبب الترف، تماماً كما ألحقت هذه النزعة، في تربية روح الإستهلاك المجّاني، أفدح الضرر بإنسانٍ كان تاريخياً المثال الذي يُحتذى في اعتناق دين الحكمة، كما الإنسان اليوناني، فإذا به يغترب عن ما فيه بطريقةٍ أذهلت العالم. فالترف دوماً قرين هزيمة. وحكماء اليونان هم أوّل مَن لقّن العالم هذه الوصيّة، فإذا الأخلاف يخذلون الأسلاف على النحو الموجع الذي لن يخجلنا أن نصفه بـ"الفضيحة التاريخية"، لأن أخلاف الناس الذين علّموا العالم الإنضباط، انحطّوا، إلى الحدّ الذي عجزوا فيه عن إطعام أنفسهم! ولكن الأمر القاضي بوجوب التشبّث بتلابيب البيت، ليس حكيماً في كل الأحوال، بدليل المصاب الجسيم الذي أقبلت به الأنباء، حيث لفظ أنفاس النزع الأخير عشرات العجزة القاطنين بإحدى بيوت العجزة، ممّا يبرّر هوس الناس بالفرار من البيوت التي تحاول السلطات أن تدفنهم فيها وهم أحياء. وقرار السلطات بفتح تحقيق في المأساة لن يشفي غليل ذوي الضحايا في كل حال، ولن يفلح اعتراف الحكومة بالتقصير، أو الإعتذار، في تخفيف وطأة المصاب، برغم يقين الجميع بحقيقة الإنسان كطينة لم توجد إلاّ لتفنَى، وما عملنا في هذه الدنيا سوى عمل ما من شأنه أن يمدّد من عمر الأجل. يحدث كل هذا بسبب نزعة الإستهتار الناتجة عن التنصّل من المسئوليّة الأخلاقية إزاء الواقع في بُعده الإنساني، لا في بعده الحرفي المحدود وحسب. وهي النزعة التي لعبت دور البطولة في إشعال فتيل الوباء ليلتهب فجأة فيسري في بدن المملكة كلها على النحو الذي انتشر به في  بلدٍ ينتمي إلى نفس العقلية اللاتينية المعادية للإنضباط كإيطاليا. نزعة الشغف بكل ما يمكن أن يلهي الإنسان عن نفسه ويحيله دمية أخرى يمارس دور البهلوان على مسرح الوجود. الشغف باللهو كان أفيون الإنسان اللاتيني منذ القدم، وقد استنزل "سينيكا" في حقّه اللعنات منذ أكثر من ألفي عام، فكيف لا يتحوّل "عقب أخيلوس" في زمن الحداثة؟

بلى! لقد تساهلت السلطات المجبولة بالوباء اللاتيني مع أناسها، فأباحت لهم حقّ إشباع نزوتهم الأبدية المغرمة بالإحتفاء المتمثّلة في الإحتفال بالمناسبات، فإن انعدم وجود المناسبات اختلق الناس هذه المناسبات. وها هو يوم الثامن من مارس يصادف مناسبة لم يعبأ إنسان الواقع بحقيقة مضمونها يوماً، ولكن ما همّه فيها هو الإحتفال، هو الكرنفال، هو اللهو في سبيل اللهو، هو إرواء الظمأ إلى التهريج. فلم تكتفِ السلطات بالسماح لأفواج الدهماء بالإحتفال في زمنٍ حرجٍ تجتاحه جائحة جامحة أسوأ من طاعون الأزمنة وحسب، ولكنها تسامحت في شأن تنقّل الجموع التي تدفّقت من الشمال نحو مدن الجنوب، لمشاركة مقاطعة فالنسيا طقوسها البليدة، الموروثة عن أزمنة العصر الهمجيّ، التي تتزامن مع الإحتفاء بعيد المرأة، فتدفّق الدهماء على المنطقة حاملين في أعطافهم بذار الجرثومة المميتة ليستزرعوها هناك، لتثمر على الفور. من هناك سرت في شرايين المملكة بفضل الإختلاط القاتل، ليبدأ الإنتحار الجماعي. الإنتحار المجّاني. وكيف لا إذا كان القانون يبيح كل شيء في ظلّ غياب الله؟ كيف لا إذا كانت حقوق الفرد، وقوانين حقوق الإنسان تحرّض على استباحة كل القيم الأخلاقية بما في ذلك اقتراف الجريمة، وإلاّ ماذا يعني السماح للناس بانتهاك حرمة بيوت الأغيار والمقام فيها غصباً بحكم قانون الحريات الذي أعجز الشيطان نفسه في ابتكار كيده فتقاعد احتجاجاً على التدخّل السافر في أداء عمله، مما جعله يجد الواقع الإنساني وقد استغنى فجأة عن خدماته؟ بلى! بلى! في إسبانيا يستطيع أي متبطّل محترف أن يسطو على بيتٍ هجره أهله لقضاء إجازة ويتمتّع بالمقام فيه مجاناً ما شاء له أن يقيم، ويحق لصاحب البيت إخراجه من البيت قبل انقضاء مهلة أربع وعشرين ساعة من وجوده في البيت، وإلاّ فكل ما يستطيع فعله لاسترداد بيته وأمتعته هو اللجوء للقضاء المنحاز بالطبع للجاني، إستنجاداً بنداء حداثي هو: حقوق الإنسان. فلا تفصل المحاكم في مثل هذه القضايا عاجلاً، ويتمّ تأجيلها من عام لعام. فلا تنتهي المفارقة عند هذا الحدّ، ولكنها لا تلبث أن تستعير أبعاداً عبثيّة عندما يُلزم القضاء الضحيّة القيام بدفع كل الإلتزامات المالية المستحقّة على البيت المفقود، مثل أقساط البيت، أو فواتير الخدمات كالكهرباء أو الماء أو ضريبة العقار أو المبالغ  المترتّبة على العناية بالبناية، في وقتٍ يتمتّع بالإقامة في البيت مجرمٌ مبجّلٌ ومكرّمٌ بحرف القانون!

ليس هذا وحسب، ولكن مفارقات القوانين القاضية بتأليه الإنسان قد قطعت شوطاً أبعد في واقع هذا المكان. ففي حمّى انحيازها لنصرة الجلاد على حساب الضحية، سنّت قانوناً آخر لا يكفل للضحية الحقّ الطبيعي كالدفاع عن النفس في حال تعرّضت للسطو من قبل الجاني بغرض السرقة. وها هو الإنسان الذي كان قد تعرّض لسطوٍ، يقبع في السجن، لأنه أصاب بطلقة مجرماً هاجمه في عقر داره، فلم يجد مفرّاً من الإحتكام إلى حقّ الدفاع عن النفس.

مهزلة هذه القوانين لم تكتفِ بتحرير الإنسان من المسئولية الأخلاقية، المفروضة على الجنس البشري بحرفٍ معبود أجيال إسمه الواجب، ولكنها تستبسل لتحرّره من المنطق نفسه، عندما تعفيه من الجناية الحرفية، التي لا تتساهل في حقّها حتى العقوبات الوضعيّة، الضامنة لأمان الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان. وها نحن نشهد اليوم فصول الحملة على القيم الأخلاقية المستخلفة فينا لكي تكون لنا في اغترابنا الوجودي حرزاً، بعد أن كنّا شهوداً بالأمس على فصول الحملة التي نكّلنا بموجبها بأمّنا الطبيعة لا لشيء إلاّ لأنها كانت رحيمةً بنا كأبناء، فحجبت عنّا ما تعلم أنه سوف يسيء لنا، ولكننا كابرنا، فانتزعنا غصباً، ما أبت أن تجود به علينا طوعاً.

 الإثنين 13 إبريل 2020 م

تقديرات الخبراء تقول أن الوباء لم يبلغ ذروة طغيانه بَعد.

أتطلّع من سجني إلى الخارج عبر النافذة المفتوحة على الطريق العام، فلا أرى سوى جاري يتسكّع بصحبة كلبه المسكون، الذي صار في حياته ملاذاً يجيز له التنقّل بحريّة، بالمقارنة مع أمثالي الذين لم يتسامح في حقّهم الحظر. أستجلي الأجواء فإذا بغمّ المناخ يتضامن مع غمّ الوباء، ليغترب الفصل الذي راهنّا عليه، وانتظرنا أن يعزّينا في محنتنا بربيع، ولكن هيهات!

أشاهد الجار عائداً من جولته بصحبة جواز سفر خروجه، فأنتحل للسلطات العذر في الإستثناء القاضي بالسماح لأصحاب الكلاب بالخروج مع كلابهم من دون الناس جميعاً، كأنّ جواز الخروج نوعٌ من تكفير في حقّ استعباد حيوان ينتمي إلى هوية وحشيّة، تستوطن الطبيعة بحريّة، فاغتنمناها لنسجنها معنا وراء قضبان، لنربّي فيها، بهذا القمع، العداء لسلالتها الذئاب. وهي ظاهرة مثيرة للفضول قرأت فيها سرّ العداء التاريخي بين الإنسان البريّ، الذي اختار الطبيعة وطناً، وبين قرينه الإنسان الحضري الذي اختار حبوس الجدران مستقرّاً، كأنّ التنكّر للواقع الطبيعي، الأمومي، الحميمي، خطيئة لا تغتفر في عرف مَن حافظ على وفائه لهذا الواقع بوصفه، في الصفقة أصل: أصلٌ إذا تجاسرنا فأنكرناه مرّة، فإن هذا الإنكار يتحوّل في جيناتنا كفراً لا نتردّد في أن نعتنقه طبيعة ترتقي إلى مستوى الإيمان بوجوب التجديف في حقّه.

هذه المفارقة التي يبرهن عليها العداء المستحكم بين ذئب مستأنس نسمّيه كلباً، وبين كلب مستشرس نسمّيه ذئباً، كما تبرهن عليها العداوة المستفحلة بين إنسان إحتفظ بإخلاصه للطبيعة واكتفى بهوية البرّ، وبين الإنسان الآخر، الذي كان له، حتى وقت قريب، في الرحيل شقيقاً، ثم ركن يتوسّد أرضاً، هي ما يترجم العداء المستميت الذي يجود به كل إنسان تنكّر لهويّته الأصليّة، واعتنق، لسببٍ مّا، هويّة أخرى دخيلة، كأنّه ينتقم من ماضيه باستبدال الإنتماء، أو يتلذّذ تلذّذاً مَرضيّاً، مازوخيا تحديداً، مما يجعلنا نفهم لماذا نرى أكثر الناس تعصّباً للعروبة مثلاً، ليس العرب العاربة، ولكنهم العرب المستعربة، العرب الدخيلة، الذين لا يمتّون عرقيّاً للعرب، ولكنهم متطفّلون إنتحلوا الهوية العربية غصباً، فلم يكتفوا، ولكنّهم أبوا إلاّ أن يزايدوا بها على أصحابها الحقيقيين!

ويبدو أن هذا المخلوق الفاني، الذي لم يعترف لنفسه بهذا الفناء يوماً، قد اهتدى إلى هذه الروح المريبة مبكّراً، فاستغلّها في تزوير الطبيعة في الذئب بصنوف التهجين، ليسلّطه على إبن جلدته البرّي، ليضمن سلامة أنعامه

الإثنين 13 إبريل 2020

عندما استنكرتُ أنانية إنسان هذا الزمان في إحدى هذه اليوميات، لم يصدّق الكثيرون الذين لم يعترفوا بوجودها، لأتيقّن بغيابها، ولكن لمجرّد أنهم لم يعوها في أنفسهم، ولكن عدم الوعي بالمشكلة لا يعني غياب المشكلة، وعلينا أن نحتكم إلى علم النفس كي نعلم كم لاوعينا مستودع الذخيرة النفيسة التي نستطيع أن ننكرها، ولكنها تخذلنا إلى أن تباغتنا، فتعلن عن نفسها رغماً عنّا، بأن يترجمها تصرّفنا يوماً، تماماً كما حدث مع شلّة العاملين في بيت العجزة الذين تخلّوا عن أناسٍ بلا حولٍ ولا قوّة، ما أن قرع جرس الحقيقة، ففرّت تاركةً العجزة لمصيرهم، خوفاً على الحياة من شبح الوباء، ليبرهنوا على ذلك الجنس من الأنانيّة، الذي تناولته في المناسبة السابقة، الناتج عن عقلية أفسدتها نزعة وضع الحقوق فوق كل اعتبار، ليبتكر إنسان هذا الزمان طائفة من الأسماء المستعارة، للبرهنة على عدالة الغنيمة التي يطالب بها بلا توقّف، حتى إذا استجاب العالم للغنيمة المأمولة، اخترعت العقلية إسماً آخر للحلم الذي لا يشفي الغليل أيضاً ما أن يتحقّق. والخطيئة التي اقترفها طاقم الخدمة في بيت العجزة ليست جريمة في حقّ القانون الوضعي وحسب، ولكنها جريمة في حقّ القانون الإلهيّ، لأن اختيار عمل مّا، ليس اختياراً لمهنة لضمان القوت، ولكنه اصطفاءٌ لرسالة. إنحيازٌ لممارسة إنسانية لا تختلف عن تلاوة الصلاة. أي أنه اختيارٌ لواجب. والتخلّي عن هذا العمل، في لحظة الحقيقة، ليس مجرّد خيانة لربّ العمل، ولكنّه تجديفٌ في حقّ ربّ الأرباب. أي أنه بمثابة خيانة للرسالة. كفرٌ بالواجب، لا يختلف عن هروب الجندي من ساحة المعركة، ما أن تنشب الحرب، لا يختلف عن فرار الطبيب من غرفة العمليات أثناء السعي لإيقاف نزيف مريض، بدعوى الخوف من العدوى!

 الثلاثاء 14 إبريل 2020 م

أمَا آن الأوان كي أقتني بدوري كلباً أتّقي به طعنات طاعون هذا الزمان؟

فأصحاب الكلاب وحدهم اليوم يتمتّعون بحصانة، فيستطيعون بموجبها أن يستعرضوا عضلاتهم في الأحياء الخالية، دون أن يتعرّضوا للمساءلة من قبل قوى الأمن التي تضاعفت بفعل الجائحة، فأُضيف لها الجيش أيضاً.

ولكن أيسر لي أن أخضع للمساءلة، فيما لو خالفت الحظر المفروض على الخروج، من أن أقتني كلباً، لسببين، أولهما: عدم حاجتي لكلبٍ يشفع لي خروجاً لديّ ما يغنيني في فقده، وثانيهما: عدائي لفصيلة الكلاب الذي يرجع لطبيعتي الصحراوية التي تستهجن الزيف في حقّ كائناتها، وترفض تدريبَ ذئبٍ لتسخيره سيفاً مسلّطاً على ذئب، لأن ما نسمّيه تدجيناً، أو استئناساً هو، في عرفها، بمثابة تزييف لمشيئتها، وتدخّلٌ سافرٌ في صميم اختصاصها، واقترافٌ لخطيئةٍ لا تُغتَفر، لأنها لا تختلف في حقيقتها عن ممارسة السحر الذي يمسخ الرجل امرأةً، أو المرأة رجلاً!

 ففي عالم البريّة، حيث يهيمن ناموس الطبيعة، فقط يوهب كل شيء لله، ولا حاجة لأن يُستقطع النصيب لقيصر، لأن في الصحراء حسب لا وجود لقيصر، لأن السلطة هنا لم تكن سياسية يوماً، ولكنها أخلاقية، ولا يتم اختيار زعيم القبيلة لكفاءاته السياسية، ولكن بفضل قيمه الأخلاقية، ولهذا لا وجود لتلك العملة المشئومة، المختومة بتجسيدٍ لرأس القيصر، لأن النظام الإقتصادي هنا يستخدم، في معاملاته التجارية، العملة الفعليّة، المترجمة في حرف المقايضة السلعيّة، وليس العملة الرمزية، المترجمة في حرف المسكوكات الذهبية، أو الفضيّة، أو المعدنية. ولهذا لا وجود لسلطان الذهب في نفوس الناس، لأن ذهب الناس هنا ذهبٌ يسكن الأعماق، ذهبٌ يحدسه الناس، ولكن لا يحسّه الناس، ذهبٌ يسري في سلوك الناس، ولكن لا وجود له في أيدي الناس، لأنهم لم يعترفوا يوماً بقيمةٍ لكل ما وقع في أيدي الناس، فتداولته أيادي الناس، لأنهم جرّبوا كيف تسري اللعنة في كل ما احترفته أيادي الناس، ليستحيل معبوداً في أيادي الناس، بديلاً لمعبود الناس. ولهذا السبب استنزل ناموس الصحراء حكم التحريم في حقّ الذهب، وغدا اقتناءه ضرباً من إثمٍ؛ ليقينهم بأن الذهب يحتفظ بجوهره كذهب ما اغترب عن الأيادي، وتشبّث بذخيرة الأعماق، فإن إستظهر، تنكّر لسجيّته الأولى، واستحال مِسخاً يتقنّع بسيماء شبح.

الكلب أيضاً ينقلب شبحاً عندما يغترب عن طبيعته الأولى بفنون ترويضٍ هي في حقيقتها نوعٌ من سحر. ولهذا كان الكلب في ثقافة البريّة مستنكراً، باعتباره مسخاً مسكوناً، مزوّراً بمشيئة تدجين، هو في عرف الطبيعة، رجسٌ لا يختلف عن عمل السحر الذي يفسخ الروح ليحيلها ذهباً. والدليل تهديه لنا النبوّة، كسليلة صحراء أيضاً، عندما استصدر خاتم المرسلين حكم الإعدام في حقّ سلالات الكلاب، حتّى إذا واجه أحد الصحابة موقفاً لا يحسد عليه في حملة قطع دابر هذه المسوخ، مجسّداً في كلبٍ استخدمته عجوزٌ عمياء ليكون لها دليلاً وحيداً في سعيها لقضاء الحوائج،  فأحجم الصحابي عن قتله شفقةً على العجوز، فعاد ليستشير في أمره صاحب الشأن؛ ولكن خاتم المرسلين لم يتراجع عن الحكم، فأوصى بتصفية  الكلب حتى لو كان دليل العجوز الوحيد، مما يعني أن الموقف من هذه المسوخ ليس استجابةً لهوى، ولكنه مبدأٌ نبويّ لا يقبل النقض بسببٍ دنيوي.

وهو موقفٌ نجد له ظلّاً في لاوعي ثقافات كثيرة اغتربت عن حقيقتها البريّة البدئيّة، ولكنها احتفظت في بعض الممارسات باحتقارها للكلاب برغم امتلاكها للكلاب. يكفي أن نلاحظ شغف كل الأمم باستخدام نعت "كلب" كسبّة تعبّر عن استنكار كل فعلٍ معيب. ولم تفلح الميوعة، التي احترفت اقتناء الكلاب استسلاماً لتقاليع الموضة، إسكات هذا الصوت العفويّ، النابع من أعماق الذاكرة المنسيّة، المستعار من مجاهل المراحل البشرية الراحلة، قبل أن تنقسم القبيلة الإنسانية إلى شقّين متعاديين، عداءٌ لا يختلف عن عداء ذئاب البريّة للذئاب الحضرية، المسمّاة في معجمنا كلاباً: شِقٌّ مازال في رحيله يحتفظ بدين الحرية، وشقٌّ تنكّر بالإستقرار لهويّته الفطرية، تماماً كما تنكّر الكلب لهويّته الأصلية، وما هوس أهل الإستقرار بامتلاك الكلاب إلاّ استجابة لاغتراب هؤلاء، وشبههم بهم في تحوّل طبيعتهم الفجيع، فرأوا فيهم أنفسهم، على نحوٍ يدعونا إلى أن نؤمن بصواب الوصيّة القاسية التي تجري على الألسن في حرفٍ يقول: "صاحب الكلب شبيه كلبه!". فحُسن الظنّ بالمَسخ، حُسن ظنٍّ بالروح الشريرة التي تسكن المسخ، وحبّ أي شيء أكثر مما ينبغي هو التماهي بموضوع الحبّ، والشبه وليد هذا التماهي.

وعندما يتندّر الليبيّون بخصال هذا المخلوق المزيّف في مَثلهم الشائع: "لا ينكر أصله إلاّ الكلب!"، فإن الذاكرة الشعبية تترجم طبيعة هذا الحيوان، الذي نحسن به الظنّ، ظنّاً منّا بأن علاقته مع صاحبه تعبّر عن وفاءٍ مزعوم نتغّى به، وننسى أن سبب هذا الوفاء نفعيٌّ في هذا الحيوان، لأنه حكرٌ على صاحبه وحده، لا تعبيراً عن خصلة حميدة، ولكن إمتناناً على إحسان، إمتناناً عن طعام، أي أنه مجرد تلبية مخجلة لنداء صفقة تجارية.

أي أنه حبٌّ بأجر!