فالأنباء تداهم أسماعنا بارتفاع حالات الإصابة بالوباء بأرقام فلكية، وحالات الوفاة في تصاعد مذهل خالف كل توقعات الخبراء، أو اولئك الذين يدّعون أنهم خبراء. وما يشفي بعض الغليل هو نسبة التشافي من المرض، برغم تذبذبها بين يوم وليلة، وبين بلدٍ وآخر، حسب ما ينفقه كل بلد من جهد، أو ما يتكبّده بلد آخر من عناء، في مقاومة المرض. ولكن ما يعزّي الجميع هو أننا صرنا كلّنا في الهمّ شرق! ليبرهن رسول المجهول كم هو عادل في قسمته، لأننا بفضل عطيته فقط نتساوى.

فليس لمثلي أن يشكو من العزل، لأني حكمت به على نفسي منذ عقود طويلة، وأخلصت له طوال هذا العمر، وأستطيع أن أعترف أنه لم يخذلني. وكم تغنّيت بأفضال الفلسفة على شخصي، لا لأنها عزّتني في محنة وجودي طوال هذا التاريخ وحسب، ولكن لأنها كتمت في نفسي أنفاس الداء الذي اعتدنا أن نسمّيه مللاً، فلم تكتفِ، ولكني وجدت نفسي مديناً لها بأفضال أخرى ليس أقلّها شأناً مجالسة أئمّة الحكمة في كل الأزمنة، لتجيرني من أكثر الأوبئة فتكاً كما الحال مع باطل الأباطيل.

السبت: 21 مارس 2020م.

الوباء رسولٌ مركّب الهوية. وها هو يحرّض أيضاً، من ضمن ما يحرّض، على سداد دَيْنٍ، هو في عرف الأخلاق دِيْنٍ، كما هو الواجب الذي يسوّقه في مثل هذه المحنة كصلاة أعظم شأناً من صلاة الشعيرة التي نمارسها لنجني من ورائها غنيمةً مأمولةً، مدفوعةً بمشيئة الربّ. وها هو الوباء يعلّق وساماً على صدر القسّ الإيطالي "بيراديللي" الذي تنازل عن جهاز التنفّس لصالح شاب باعتباره الأحقّ بارتياد عبّارة الحياة، ليلفظ هو بفضل هذا القربان، أنفاس النزع الأخير، فاشترى منزلة القداسة، لا بمرسوم البابا، ولكن بفرمان أعظم تلقّاه من ربّ البابا، بدون الحاجة لوساطة فاتيكان البابا.

والدرس المستعار من جناب الوباء جليّ، ولكنه يستوجب استجلاء عميق، عندما يخضع للمقارنة مع الموقف المخزي الذي اقترفه طاقم بيت العجزة في مدريد الذي تخلّى بمكيدة خسيسة عن أناسٍ بلا حولٍ ولا قوّة، بعد أن بلغوا من العمر عتيّاً، كانوا أمانةً ألوهية في أعناقهم، قبل أن يكونوا أمانةً بحكم القانون الدنيوي، ليقدّموهم وليمةً مجانية على مذبح العدوى. ذلك أن الأوبئة لا تحمل في أعطافها المنايا إلاّ مجبولةً بنصيبٍ من الوصايا، التي ستكون لنا ترياقاً في حال أفلحنا في استنطاقها كما ينبغي. وهي إذا خلعت وسم العار في حقّ طاقم بيت العجزة، فهي عرفت كيف تكافيء "بيراديللي" بأرفع جوائزها، لأن الوسام الموسوم ببصمة الأبدية، وحده جديرٌ بمقام الخلود، لأنه وحده لا يراهن على مكافأة، إيماناً بأننا في هذه الدنيا كلّنا قرابين، تنتظر لحظة المثول في حرم المذبح، وكلما كان ميعاد الرحيل أقرب، كلّما كان مذاق الخلاص أعذب!.

السبت 21 مارس 2020 م.

أمثال "بيراديللي" وحدهم يستعجلون الرحيل دوماً، لأنهم يراهنون على سلوك السلف الصالح الذي توارثوه عن أسلافهم الرومان. أمثال "جوزيبّي براديلّلي" يراهنون على تقاليد كاتون، لا على تقاليد بروثوس. يراهنون على وصايا سينيكا فيفعلون كل شيء كأنهم بحضور هذا الحكيم تماماً كما حرص سينيكا نفسه على أن يفعل كل شيء وكأنه بحضور معلّمه أبيقور،  فلم يملّ من أن يلقّن تلاميذه بوصيّة الوصايا: "إفعلوا كل شيء وكأنّكم بحضور أبيقور!".

فالإنسان الفاضل وحده يستحي أن يتنازل لطغيان أهل الباطل، فيستجدي خلاص الدنيا، مضحّياً بخلاص الأبديّة.

"أسّانغ سيلكام إيدغلغ، بشّان يلكام إيهيتّكتومد"، "أعلم أنّي سأرحل، ولكن عزائي أنّكم ستذكرونني!" يقول شعراء الأنعام في صحرائي الكبرى، ولكن حدسهم لم يخذلهم عندما تغنّى هذا الحدس بقيمهم الخالدة التي لا تليق إلاّ بأمثالهم الذين يعلمون أن لا وجود لرعاةٍ أنامٍ، كما هم أنبياء الأزمنة، ما لم يخضعوا لامتحان رعاية الأنعام، ولهذا السبب يستعجلون الرحيل أيضاً، على طريقة "بيراديللي"، ليقينهم بأن الإنسان يفنَى، ولكنه بالفعل البطولي وحده يبقى.

فهدهدة الإستعداد العفوي للجود بأنفس ما في الوجود، وهو النفس، ليس ضاناً للفوز بالخلود وحسب، ولكنه أيضاً ضمان السعادة قيد الوجود.

الأحد 22 مارس 2020 م.

علّق أحد الخبراء الروس على طبيعة الوباء قائلاً: (ليس في نيّة أي وباء إبادة البشر!). فهل حالفه الصواب؟
أشكّ في ذلك، لسببٍ بسيط وهو أن الوباء، إذا لم يكن في نيّته قطع دابرنا من خارطة حضورنا في عالمٍ هو عالمه، بيد أنه مضطرّ أن يفعل عندما تظهر في الأفق حسابات النفع. فالوباء لا يحصدنا من باب التسلية، كما نفعل نحن عندما نتنكّب أسلحتنا الأكثر فتكاً من الوباء ونذهب في رحلة صيد، ولكنه يحصدنا ليقتات علينا. يبيدنا ليحيا بنا. فالحكمة تقضي بأن نفتّش دوماً على الحُجّة في أيّ فعل. وحُجّة الجرثوم هنا تكمن في هذه اللقية الشقيّة التي كانت في حياتنا البشرية أيضاً بمثابة الوباء الأرذل من الوباء، وهي: المنفعة!.

الإثنين 23 مارس 2020 م.

مازلنا في أول عتبة في طريق حصد الفضائل، فضائل الوباء، فها نحن نقطع شوطاً أبعد في كتم الأصوات، ونبلغ منزلة في طريق حبس الأنفاس، فلا يُسمع في الشوارع سوى جعجعة محرّكات سيارات النفايات، أو سيارات الشرطة التي تطوف الأنحاء لتحرّض في مكبّرات الصوت على وجوب إلتزام البيوت، وتحذّر من ارتياد حدائق البيوت، أو الإختلاط في الساحات حول المسابح، أو حتى الخروج إلى الشرفات، ولم يبقَ للسلطات إلاّ أن تمنعنا من استنشاق الهواء! وها هي السلطات تحرمنا اليوم من الأضواء.

غرقت المدينة في الظلمات لأول مرّة كإجراء أخير لترويض الناس على البقاء في جحورهم. فما حيّر السلطات في كل أوروبا هو الكيفية التي تستطيع أن تجبر الناس على البقاء في بيوتهم بعد أن أخفقت في تحقيق أول بند في قانون الطواريء، لتكتشف كم هي إفيون هذه العادة، وكم هو طفلٌ عنيد هذا المخلوق المدعو في حيثيّات الأحكام القضائية مواطناً، كأنها لم تكتشف إلاّ الآن مدى صواب الوصيّة الصينيّة القديمة التي تحث السلطات على عمل كل ما بالوسع للحيلولة دون أن يهجر الناس موطنهم. فالإنسان حيوانٌ مفتونٌ بالسليقة. مفتونٌ بالهجرة. والفايروس لم يكن ليطير عبر العالم بألف جناح لو لم يكن محمولاً على جناح أكثر المخلوقات هوساً بالهجرة، كما هو الحال مع الإنسان.

ولهذا السبب إنتشرت الأوبئة عبر العالم منذ الأزل، لأن لا الإنسان يريد أن يتنازل عن طبعه فيتخلّى عن هجرته، ولا الوباء في نيّته أن يتنازل عن طبعه فيتخلّى عن مطيّته الفذّة التي تطير به عبر الآفاق بألف جناح. وما تريده السلطات الآن هو عمل ما من شأنه أن يُلزم هذا الكائن الموبوء بالبقاء في ركنه، بعد أن اكتشفت أن الإنسان في الواقع ليس مجرّد وعاء حامل لجرثومة وباء، ولكن الإنسان هو الوباء! وبرغم وفائه لمسقط الرأس، وحنينه لوطنه، بيد أنه يرفض الإمتثال لناموس الجذور، يرفض أن يكون في صفقة الوجود شجرة، وإلاّ كيف يستطيع بعدها أن يبرهن لنفسه أنه طير، أنه حرّ؟

والمأساة أن السلطات ترفض هذا المنطق، وتصرّ على أن يقبل الإنسان بقدر الجذور بالقوّة!

الثلاثاء 24 مارس 2020 م.

سجّلت حوليات مراكز الشرطة إفادة جديدة تضاف إلى مزايا الوباء:

فقد برهنت تجربة الأيام السالفة نزول مستوى إحصائيات الجريمة إلى الحضيض، بفضل الحظر. وكان من الطبيعي أن تتغنّى السلطات بهذه المعلومة، وتسوّقها في وسائل الإعلام كإنجاز، بل وكحجّة على صواب القسوة التي عاملت بها مواطنين سيظلّون في عرفها أطفالاً ما ظلّوا على عنادهم الطفولي في رفض الحجر الصحّي. فالإحساس المعتاد بخطر الإصابة يتضاءل في عقول السواد الأعظم كما يتضاءل الإحساس بالخطر في حال العلاقة بمرضٍ مميت أيضاً كالسرطان بسبب الحصانة المزيّفة التي يهبها إفيون آخر كالعالفية، وتلك الجرعة من الثقة بالنفس التي تصوّر للفرد الوباء كبلاء لا يعنيه، واحتمال الإصابة به ليس مستبعداً وحسب، ولكنه ضربٌ من محال، فلا يفيق الناس من غفلتهم إلاّ بعد فوات الأوان. هذا اليقين القطعي هو ما يجعل الناس يتمسّكون بعنادهم في مقاومة أيّ حظر، لأنهم يحسبونه إهانة تشكّك في شجاعتهم.

الأربعاء 25 مارس 2020 م.

البراعم تتفتّح في أشجار البتولا داخل السياج بإيقاعٍ حثيث. فبستان بنياننا وحده ينعم بصفٍّ سخيّ من أشجار البتولا التي لا وجود لها في "سالو" كلها، وربّما في شبه الجزيرة الإيبيرية، وذلك لهوية البتولا كسلالة شمالية، وقد كانت لي ملاذاً طوال مقامي في روسيا السوفييتية، ثم في روسيا الإتحادية إبّان عودتي الثانية إلى روسيا في منتصف الثمانينيات، بعد غيابٍ دام سبعة عشر عاماً. فكانت البتولا ترياقي أيضاً سنوات عزلة المرحلة الأخيرة. وها هم الإيبيريّون يطرحونها على شرفي، عند حلولي في رحابهم، كأنهم يحدسون عشقي لهذه الفصيلة التي تغنّى بها الشعراء الروس الكلاسيك، ونصّبوها في أغانيهم رمزاً للمرأة الحسناء: جذعٌ مسبوك، مستقيم، كربلة ساقٍ أنثوية، بقامة مكابرة، ناصعة البياض. ويبدو أن الإسم مستعارٌ من هذا النقاء، القرين للتبتّل كبكارة. وهي تتجرّد من لباسها مبكّراً، لترتمي في أحضان معشوقها الأنصع بياضاً، والأكثر بكارةً: فصل الشتاء.

ولم أكن لألحظ هذا الشغف بالتعرّي في محيط البتولا البيئي في روسيا، لعسر التمييز بين الأشجار في واقعٍ يغترب فيه كل شيء مبكّراً، استعداداً لتسليم زمام الأمر لطاغية هو صاحب شأن كما هو الحال مع شتاء الشمال. ولكن شجرة البتولا هي التي هرعت لي، سنوات مقامي بالألب السويسري، لتكشف لي هذا الهوس بالرحيل مبكّراً، يوم فوجئت بكوكبة تتسلّق خاصرة قمم "غوليفيل"، معزولةً، مغتربةً، تتكاثف في فروة الشعفة الجبلية المطلّة على لُقيتي، لأستعيد بمشاهدتها ذكريات الزمن الضائع في الروسيّتين: السوفييتية والفدرالية، حتى إذا استوى الخريف، وجادت الأوراق في اللقية بالنزيف، افتتحت اللقية موسم الهجرة بطرح حللها الفاتنة كأنها تلقّت إشعاراً من أوطانها في أقاصي الشمال، لأن وجودها بمثابة قرون استشعار رسالتها أن تتنبّأ بقدوم معبودها الشتاء. فالبتولا، حتى في منافيها، الأكثر دفئاً من مناخ الشمال، وفيّة لهويّتها، فترتحل في الميعاد الذي حدّدته طبيعتها. واليوم، عندما فاجأتني بتحيّتها، المترجمة في بسمة وريقاتها، كان لي بمثابة عيدٍ في زمن الوباء.

تستطيع السلطات، بقوانين الطواري، أن تحرمني من الخروج، ولكنها لا تستطيع أن تحجب عنّي ميلاد الأمل في أشجار البتولا، كي أمثل كشاهد عيان، في حرم الجمال، المسكون بذاكرة الزمن المفقود.