ليست اللعنة في الوحدة، بل في إرهاب الأسئلة التي تنهال بغزارة في لحظة أبحث فيها عن ولاعة السجائر أو قلم جاف أو ملعقة الخشب.

منذ أيام، كنت على المباشر في رسالة من وسط العاصمة تونس مع الزميلين سامي القاسمي وكريستيان بيسري. وبينما بدأت في تحيين المعطيات حول كورونا، اعتذر الزميل سامي عن مواصلة الرسالة وكان العاجل أسفل الشاشة: العالم يسجل مليون إصابة بفيروس كورونا.

لا أعرف.. ولكنني لملمت سلك الماكروفون في صمت مطبق وغادرت مسرح المباشر أنا والمصور من دون أن نعرف حتى إلى أين سنذهب.. هل سنقطع كل هذه الشوارع الخالية نحو المكتب أم نحو حجرنا الصحي.

مرة أتذكر ـ بعد أن طالت مدة الحجر ـ سألت نفسي إن كان ما تعيشه الإنسانية الآن من توقف شبه تام عن الحياة، التي تسمى عادية، مجرد كابوس سريع الانتهاء، أم أن رعب الخروج إلى درج العمارة سيستمر طويلا؟ درج العمارة وإن لم يكن فضاء عموميا بالمعنى المشاع فلسفيا إلا أنه ومع كورونا أصبح ركنا محل نقاش ذهني يومي وأنا في طريقي إلى العمل.. هل ستنتقل لي عدوى الفيروس في هذا الممر الرخامي الذي يمر منه كل الجيران والسكان، أم سأنجو هذه المرة؟.

أصبحت بهذه الأسئلة أحمل سجني معي. مجموعة الجدران المحيطة بي في شقتي لم تعد تفارقني حتى في أكثر الشوارع شساعة وأكثر الهضاب علوا. حتى أني بت متيقنا أن إرهاب البقاء في البيت لا ينفصل عن إرهاب كورونا، على رأي داريدا الذي ذهب بعيدا في تأويل الإرهاب والدمار مقرّا أن إرهاب مكاتب مبنيي التجارة العالمي ربما قد يوازي إرهاب تلك الطائرات.

ومع تطور أرقام المصابين والوفيات، أصبحت على قناعة أننا نقترب من انتهاء السردية التي بنينا من خلالها رؤانا وأحلامنا وصارت معيارا لنجاحنا أو فشلنا. ربما هي سردية الحداثة، أو سردية ما بعد الحداثة. أم أن الحداثة مشروع لم يستكمل بعد على رأي هابرماس؟.. هو لم يستكمل وقد عشنا على وقعه قرنا من الرصاص وبداية قرن من الرصاص والوباء.. فماذا لو استكمل؟ وإن كان كورونا إشارة لنهاية ما بعد الحداثة، فما الذي سيأتي بعد ذلك؟ هل نحن نعيش الإرهاب القادم من المستقبل؟ نحن لم نتخلص بعد من إرهاب الماضي القادم بسيوف قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو القادم بخطاب مخاتل منعش لجذوة امبراطوريات الجواري والتخلف، حتى يأتينا إرهاب آخر من المستقبل !.. ماذا لو حوصرنا في زمن كورونا ونحن في بيوتنا، ماذا سنختار؟ إرهاب الماضي أم إرهاب المستقبل؟.

أشارك الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني حين قال "إن أفق الإنسان لدينا لم يعد محتملا". لقد كشف فايروس كورونا أن كل هذه الإنسانية اليوم ليست سوى ملة. نعم، هي ملة الإنسان. الملة التي تنتشر فيها الأمراض سريعا، والأساطير سريعا، والحروب والغارات سريعا، والظلم والحيف سريعا، والزيف والقبح سريعا. وليست المدينة التي وعدنا بها أنفسنا ونحن نبني المدنية سوى مجرد وعد في مستقبل نتطلع أن يكون خاليا من الموت بضيق التنفس على الأقل.. حتى نوقّع موتا طبيعية بنهاية ما للعالم تحت إمضاء أحدنا فقط، وليس بإمضاء جثة تدفن تحت رقابة السلطات مخافة العدوى، أو مخافة أن تتحول الجثة إلى ثقب أسود يبتلع كل من يقترب منه.. فالإنسان يموت بطريقة مختلفة في كل عصر، وهو يموت داخل سرديات ولا يموت كالأشياء. والظاهر أن سردية نهاية الملايين ـ منذ رسم دا فينشي للوحة الجوكاندا إلى اليوم ـ ليست سوى سردية الدمار بمعاول إنسانية خالصة.

من خلال هذا الحاضر الذي نعيشه، لم أنقطع عن تكرار مقولة للشاعر هولدرلين في المقطوعة السابعة من مرثية "الخبز والنبيذ" بأننا قد وصلنا متأخرين. واحد مثلي لم يغادر مربع الحرب والثورة والأزمة الاقتصادية والطاعون أصبح مقتنعا أنها عناصر حتمية عليه أن يتعايش معها دون أن يناقشها. لكن الغريب ـ على الرغم من كل ذلك ـ أن صوتا ما بداخلي يقول إن في الغد اكتشافاً آخر لعبقرية الإنسان.