إذِ الحرب عنفٌ سياسيّ بالغُ الشدّة والشّراسة، وهي – في الوقت عينِه – تعبيرٌ عن مصلحةٍ تبغي تحقيق نفسها بالقوّة العمياء بعد أنِ امتنع عليها ذلك التحقيق بأدوات السّياسة غير العنفيّة. يعني ذلك أمريْن مترابطيْن يلقيان الضوء على العلاقة الحاكمة لهذه المتلازمة الثّلاثيّة: السّياسة – المصلحة – العنف:

أوّلهما أنّ الحرب عنفٌ أقصى، وهو أعلى مراتب العنف السّياسيّ وأشدُّها فتْكًا بمن / ما يقع عليه. يمكن للعنف الفيزيقيّ أن يرْدَع مَن يقع عليه، أو يَحْمِله على النّزول أمام إرادة من يمارسه عليه لعدم قدرته على مقاومة مفعول قوّته بقوّةٍ نظير من دون أن تكون نهايةُ فِعْلِ العنف ذاك مَحْوَ وجود مَن يقع عليه. لكنّ عنف الحرب عنفٌ مدمّر وإفنائيّ لا يستثني حياة الناس ووجودهم من منظومة أهدافه. هو لا يكتفي من فعله بأن يقمع ويردع فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى القتل والإعطاب البدنيّ الكامل، ناهيك بالتجويع والتهجير والتشريد وسوى ذلك ممّا يتولّد من فعله من نكبات إنسانيّة. وهذه ليست جزئيّةً في التمييز بين العنف والحرب، بين عنفٍ يتمظهر في أفعال ردْعيّة وآخر في أفعال إفناءٍ وتدمير. قد لا تكون حياةُ ضحايا العنف هدفًا للعنف، بل قد تُستثنى، تمامًا، من الغايات التي من أجلها يُصْرَف، وحينها لا يُخرُج العنفُ ذاك – على قسوته – من نطاق التسليم بمبدإ الحقّ المقدّس في الحياة. أمّا في عنف الحرب، فليس لهذا الحقّ في الحياة من حُرمة، حتى لا نقول إنّ القدرة على إحداث أكبر القدر من القتل والتدمير هي من آكَدِ أهداف أيّ حرب، وهي ما يعجّل باستسلام الخصم والنزول عند إرادة الأقوى.

وكما أنّ الفرق بين عنف الرّدع وعنف الحرب ليس من قبيل "فَرْق عُمْلة"، كما يقال، كذلك ليس يسيرًا هو الفرقُ بين عنفٍ يكون مَن يقع عليهم أفراد محدودون، وعنفِ حربٍ تتوسّع فيه دائرةُ المستهدَفين لتشمل المجتمعَ برمّته. ثمة فارق بين عنفٍ أمنيّ يقمع مظاهرةً أو اعتصامًا، أو يقتحم بنايةً لتوقيف مطلوبين، وعنفٍ يمشّط بالسلاح الجويّ أو بالمدافع والدبّابات قريةً أو مدينة ويُزهق الأرواح. قد يكون العنف الأوّل غيرَ قانونيّ، إذا حكمتْه سياسات الاعتساف والتسلّط، وقد يكون قانونيًّا غايته فرض احترام القانون، ومنع الاعتداء على الممتلكات أو الحرّيات أو السّلم المدنيّة. غير أنّ الثاني غيرُ قانونيّ، قطعًا، لأنّه يفرض قانون الأقوى الذي لا يعترف به غيره. لذلك كان القانون الدوليّ يلْحظ، في تشريعاته، حقّ الشعوب التي احتُلَّت أراضيها بالقوّة واستبيحت سيادتُها في مقاومة العدوان بالوسائل كافّة بما فيها العسكريّة، لأنّ العنف الممارَس ضدّها حربًا عنفٌ غيرُ مشروع. أمّا القانون المدنيّ، في الدولة الحديثة، فلا يمنح مواطنًا الحقّ في مقاومة العنف بالعنف، بل بالقانون والقانون حصرًا، الأمر الذي يتقرّر به مبدأ حقّ الدولة في ممارسة العنف المشروع إنِ انتُهِك القانون أو تَهَدّدتِ السِّلمُ المدنيّة.

وثانيهما أنّ الحرب إذْ تُتَوسَّل لغرض تحقيق مصلحةٍ، امتنع تحقيقُها بأدوات السّياسة، إنّما تتغيّا إكراه الخصْم أو العدوّ على التسليم بإرادة مَن شنَّ عليه الحرب و، بالتالي، على التسليم بأهدافه ومصالحه التي كانت في أساس الحرب تلك. لا تملك حربٌ أن تبلُغ هذا الهدف إلاّ متى أحرزت نجاحًا في إخضاع مَن تَقَع عليه. والإخضاع فعْلٌ يترجمُه خضوع الخصم لسيطرة الأقوى، لإرادته خضوعًا كلّيًا أو جزئيًّا (تبعًا لمستوى المصالح ودرجات تحقيق الأهداف). وليس من معنًى للإخضاع والخضوع سوى إنفاذ أحكام قانون الأقوى. والمغلوب إذْ يسلِّم بأحكام قانون الغالب يفعل ذلك مكرَهًا أو صاغرًا لا عن إيمانٍ منه بأنّها مشروعة. وليس هذا شأن العنف المشروع الذي تمارسه الدولة ويخوّلها القانون حقّ اللجوء إليه. صحيح أنّه، هو نفسُه، عنفٌ يتغيّا الإخضاع وتحقيق السّيطرة؛ لكنّه إذْ يفعل ذلك، لا يُخضِع من يُخضِعه لإرادة أحد بل للقانون. أمّا مَن يقع عليه العنف ذاك، ويخضع فيسلّم بأنّ خضوعه إنّما هو للقانون/ حتى لو عَدَّ نفسَه غيرَ منتهكٍ له، أو عَزَا عدمَ عدالة الحكم الصادر في حقّه إلى مَحَاضر التحقيق أو إلى سوء تقدير القاضي. ولكن، وراء الفارق بين الإخضاعين، يكمَن الفارقُ الكبير بين هدفِ كلٍّ منهما: هدف الإخضاع الحربيّ تحقيق مصلحةٍ خاصّة بمن حقَّق ذلك الإخضاع، أمّا هدف الإخضاع المدنيّ فتحقيق مصلحة عامّة: حفْظ القانون والسّلم الاجتماعيّة.

يبقى أنّ مشتَرَكًا يقوم بين العنف والحرب، على ما بينهما من تبايُنٍ في المنطلقات والغايات؛ هو أنّهما يبدآن في لحظةٍ من عجزٍ الأدوات السّياسيّة السّلميّة عن أداء وظائفها. لا تلجأ السّلطة إلى العنف إلاّ حين تعجز أدواتُها الإيديولوجيّة والسّياسيّة عن فرض احترام القانون. على النحو نفسه، لا يشنّ طرفٌ حربًا على آخر إلاّ حين يعجز عن تحصيل أهدافه بوسائل السّياسة ومن غيرِ حاجة إلى القوّة.