فهذا البلد الذي أخضع لحكم الإخوان المسلمين على مدار ثلاثة عقود وتحمل تبعات تصنيفه ضمن قوائم الدول الراعية للإرهاب يخوض معركة صعبة ومعقدة للغاية ومع ما قدمه السودانيون في خلع نظام البشير والبدء في مرحلة التحول الوطني فإن الدرس السوداني مازال الأجدر بالحضور في التجارب العربية.

وقع السودانيون ضحية لجريمة سياسية متكاملة فالوقوع في أيدلوجية الإسلام السياسي بدواعي الاختطاف الذي حدث في عام 1989 شكل ثقباً ليس في الذاكرة السودانية بل حتى العربية التي وجدت في عملية الغسيل الذهني للأمة السودانية مساحة إغراق متعمدة فيما لا يجب أن يكون عليه حال تلك الأمة التي كادت أن تنجح في مسارها الديمقراطي الذي كانت تسير فيه خلال منتصف الثمانينات الميلادية من القرن العشرين.

بكثير من الانضباط الوطني استطاع الشعب السوداني إسقاط النظام السياسي، وبكثير من شدة المواقف استطاع بناء جسر الانتقال السياسي من اللادولة إلى الدولة، وإن كان المسار مازال محفوفاً بالمخاطر فإن الخطوات التي تستهدف تفكيك منظومة الدولة العميقة بكل ما فيها من فساد سياسي واقتصادي وإن كانت أقدمت على إجراءات عملية بإعلان مجلس السيادة حلّ ما يسمى "مجلس الأحزاب الإفريقية" الذي يعد واجهة من واجهات الحركة الإسلامية التي امتلكت السلطة خلال المرحلة الفائتة.

المرحلة الانتقالية تشهد ما يمكن أن يوصف بتفتيت تلك الصخرة التي جثمت على صدر السودانيين، وهذه العملية تقتضي إدراكاً لمخاطر أن الانتقال السياسي وإن كان مدعوماً دولياً فإنه يتطلب خطاباً وطنياً جامعاً كذلك الخطاب الذي جمع الطبقات المختلفة في اعتصام الأشهر الصعبة التي مرت على السودانيين وهم يمارسون الضغط ويتحملون من نظام البشير أنواع الترهيب كافة حتى نجحوا واستطاعوا إسقاطه.

يظل الرهان السوداني في القدرة على امتلاك الخطاب الوطني وتمريره كأساس قادر على التصدي لمحاولات التيارات الفاشلة والمتربصة بالفرص التي يمكن أن تأتي مع الظروف المتفاعلة، فالسودان يظل جزءا من العالم بل جزءا مؤثرا في قارته الإفريقية، هذا ما يمكن أن يأتي في إطاره الموقف من تطورات سد النهضة وما انعكس إعلامياً يؤكد حساسية المواقف السياسية على وضع السودان (الهش) الذي مازال في مرحلة دقيقة لا تحتمل إطلاقاً الدخول في معتركات حادة سياسياً.

مع ذلك تبدو خطوة أخرى في الطريق الصحيح مع  فتح محاكمات ما يسمى بـ"ثورة الإنقاذ" التي قفز منها تنظيم الإخوان المسلمين إلى سلطة الحكم في خطوة مواجهة لحقبة سياسية لا يمكن التعاطي معها عبر العدالة الانتقالية دون محاسبة رؤوس السلطة الباقية، هذا المسار وإن كان يراه المتخوفون شائكاً فإنه مسار حيوي سيعمل على تجنيب السودان ما آلت إليه تجارب انتقال سياسية أخرى سقطت في أفخاخ  كان بالإمكان تجاوزها لو تم التعامل مع كامل الوقائع والتحديات كما يجب دون مبالغة في مخاوف وتوجس.

وقع اليمن والعراق وعدد من البلدان في الفشل عندما أُشيعت الشعارات مكان الأفعال، فالثغرات التي تسللت منها جماعات الإسلام السياسي في النموذجين اليمني والعراقي كان ثمة فرصة للتعامل معها لولا أن تلك الثغرات سمحت لأفراد بالتأثير في مخرجات الانتقال السياسي فتمت عملية الانحراف على نحو حاد عمل على جر البلدين لأتون صراعات أثنية منها استعادت أركان النظام السابق وتلك المحسوبة على التيارات الإسلامية المتشددة وحتى المتورطة في الفساد الاقتصادي.

حصاد السودان كان خراباً هائلاً رغم أن السودان حصل على استقلاله منذ عام 1956 فالحصاد المرير أن السودانيين وجدوا أنفسهم في فشل اقتصادي ذريع والأكثر فشلاً من ذلك أنهم وجدوا بلادهم تتحمل اتهامات دولية بالإرهاب، تضاعف الفشل يتطلب تدابير تندفع لتصفية الماضي عبر الإجراءات وليس الشعارات وهذا ما تقدمه التجربة السودانية بامتياز مع عدم تحسن في الملف الاقتصادي الذي يتعين على مجلس السيادة أن يعمل على التأثير المباشر فيه فهذا هو الدرع الواقي لمرحلة الانتقال السياسي لأنها مرهونة بالشعب.

الدرس السوداني تكمن أهميته في أنه لا يكرر تجربة العراق ما بعد سقوط نظام البعث  2003 بالقطع الفوري بما سمي الاجتثاث ولم يترك المساحة للفراغ كما فعل اليمنيون بتدوير الفاسدين باختلاف انتماءاتهم سواء السياسية أو الاقتصادية، لذلك يظل الدرس السوداني مختلفاً وفريداً في التماسك وكذلك في التوازنات الداخلية التي وحتى الآن راعت المزالق واستوعبت الصدمات المتوقعة بما فيها الصدمات الخارجية التي تتباين فيها المواقف لحساسيتها كما هو حال قضية سد النهضة التي يجد السودان نفسه عالقاً فيها بين مصر وأثيوبيا ويتعين عليه أن يكون الوازن لضمان الأمن والاستقرار لشرق القارة الإفريقية كلها.