تذهب السيدة بيلوسي إلى أن "تفويض الكونغرس  لمحاسبة الرئيس أمر أكثر أهمية  من أي مكاسب سياسية، بل إنه يفوق أهمية الحفاظ على الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب في انتخابات 2020".

على الجانب الآخر يجيبها ساكن البيت الأبيض الرئيس ترامب،  بأن أقوالها تؤكد يقينه بأن ما يحدث ليس إجراءات عزل، بل انقلاب يهدف إلى نزع السلطة.

يحار رجل الشارع  الأميركي، ما الذي يجري في نطاق وسياق  النخبة الحاكم؟ وهل باتت أميرك أمة في خطر من جراء اهتراء نسيجها  المجتمعي عامة والسياسي بشكل خاص؟.

الشاهد أنه حين اختار الأميركيون دونالد ترامب، بدا وكأن الأمر ثورة على  رموز السياسة الوطنية، من الجانبين الديمقراطي والجمهوري، لا سيما  وأن الكثيرين، ومنهم مؤلفون وكتاب وسياسيون أميركيون ثقات، يرون أن الديمقراطية الأميركية في خطر، وقد باتت تباع على الأرصفة كما يقول الكاتب الأميركي غريغ بالاست في كتابه "أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها".

وصل الصراع الآن إلى نقطة مثيرة للجدل، تتعلق بصيرورة العزل، وهل الهدف كما قال آدم شيف، هو تمكين الشعب الأميركي، من تقييم الشهود بنفسه والتعرف من كثب إلى  حقائق سلوك الرئيس، أم أن بيت القصيد هو إزاحة ترامب من طريق الفوز الثاني شبه المؤكد له، في الانتخابات الرئاسية الأميركية 2020 ؟.

الجواب في واقع الحال، يتطلب أكثر من مسار ومساق للتفكير، فمن جهة تبدو محاولات  الديمقراطيين غير طبيعية، في دفع ترامب خارج إطار الحياة السياسية الأميركية، وربما إجباره على الرحيل المبكر، وما أزمة أوكرانيا إلا محاولة جديدة، جادت بها قريحتهم، بعد أن أخفقوا في مساعى الربط بينه وبين الروس، واختراق انتخابات الرئاسة  2016، ما اصطلح على  تسميتها بـ" روسيا  - غيت ".

تجيء الآن "أوكرانيا – غيت"، التي تتخلق في الرحم الأميركي، وعلى  مقربة  من انتخابات الرئاسة الأميركية 2020 ، لتطرح أحد الأسئلة المخيفة حقاً بالنسبة للأميركيين: "هل انقسمت أميركا في ما بينها، أم أن الصراع الدائر جهراً تارة وسراً تارة أخرى،  يشير إلى ما هو أكثر هولاً لمستقبل الاتحاد الأميركي وبقاء الجمهورية الأميركية دولة موحدة بدرجة امبراطورية حديثة، ربما تتجاوز في هيمنتها  ومنعتها  نظيرتها الرومانية"؟.

إحدى علامات الانقسام، التي وقفت وراء نشوء وارتقاء أزمة أوكرانيا الأخيرة، موصول بما يعرف بـ" الدولة  الأميركية العميقة "، تلك التي تمتد أيديها الاخطبوطية، لا في الداخل الأميركي فحسب، بل حول العالم من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى  جنوبه.

يتساءل الأميركيون: "كيف تم اختراق البيت  الأبيض، ومن الذي لديه القدرة على  اختراقه والوصول إلى سجلات مكالمات رئيس البلاد الخارجية؟ وهل من مشروعية بعينها، لمثل هذا التنصت أو التجسس، أم أن الأمر مجرم بالقانون، وهناك من التف على  القواعد واللوائح المنظمة للعمل داخل هذا الصرح الرئاسي؟.

قبل يومين، قال الرئيس ترامب للصحفيين في قاعدة اندروز الجوية، قبل توجهه إلى ولاية الاباما: "لدينا نسخة أخرى ننشرها وهي مهمة للغاية"، في إشارة إلى اتصاله الهاتفي بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والتي وصفها بأنها مثالية، رغم أن الديمقراطيين يعتبرون المحضر الذي نشره البيت الأبيض داعماً للاتهامات التي طلقت بحقه.

نجح الديمقراطيون في واقع الأمر في استحضار  أكثر من عشرة شهود حتى الساعة ، أكدوا صحة الاتهامات الموجهة إلى ترامب، وها هي الآن الجلسات أضحت علنية، والسؤال: إلى أين يمكن أن يمضي المشهد؟.

الثابت أن أقصى ما يمكن الوصول إليه من قبل مجلس النواب المهيمن عليه من الديمقراطيين، هو توجيه اتهام رسمي وتوصية بالعزل، غير أنهم يدركون صعوبة تنفيذ ذلك على أرض الواقع، لحاجة القرار إلى تصويت ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ على القرار، وهو ما لن تجود به الأقدار في ظل الأغلبية الجمهورية هناك، والتي لن تسمح بتمير مثل هذا القرار.

ليست الطغمة السياسية الأميركية الحاكمة وحدها المنقسمة على  ذاتها، بل أيضاً وسائل الإعلام التقليدية كالتلفزة، والتي باتت فسطاطين في الداخل الأميركي، وأضحى هناك ما يشبه التقسيم المانوي بين جماعة الأخيار ومعسكر الأشرار، من مع ترامب ومن ضده، رغم أن الجميع  يوقنون بأن محادثة ترامب مع نظيره الأوكراني وإن كانت  تشوبها شائبة، إلا أنها لا ترقى إلى مستوى  الخيانة العظمى، التي تبرر عزل الرئيس، ومحاكمته وكأنه أفشى أسرار الدولة، أو تسبب في إصابة الجمهورية الأميركية بخسائر في الحل والترحال، وما يمكن أن يعرض أرواح الأميركيين للخطر.

يسعى  الديمقراطيون من دون أدنى شك، إلى تقزيم نجاحات الرئيس ترامب في أعين الناخب الأميركي، بصرف النظر عن هويته السياسية، أي أن في الأمر شبهة تدليس من قبل التيارات المغرقة في علمانيتها  من جهة، والنيوليبرالية الشاطحة إلى أبعد حد ومد من جانب آخر، وكلاهما يتعامى عن أوضاع الاقتصاد الأميركي المتميزة، فنسبة البطالة هي الأدنى منذ خمسة عقود، وسعر غالون المحروقات لا يتجاز دولارين ونصف الدولار، وأسواق الأسهم المالية والسندات في أوجها، ما يعني أن  الرئيس ترامب نجح بالفعل في ما  وعد به، أي  بأن يعود بأميركا إلى  مضمار القيادة والريادة اقتصادياً، ما ينعكس بالرفاه على  حياة المواطن الأميركي، من دون أن يعني ذلك  ضرورة أن تكون أميركا شرطي العالم ودركه، مع استحقاقات هذا وذاك، وأثرهما في دافع الضرائب الأميركي.

هل يمكن أن يرتد نصل العزل أو محاولات  الانقلاب على  نحر الديمقراطيين أنفسهم؟

هذا وارد بقوة لاسيما  أن المغالاة في شخصنة الأزمة تجاه ترامب  ستدفع  الجماعات اليمينية الأميركية من جديد إلى التغاضي عن أي تقصير في أداء ترامب والتمترس في خانة داعميه، باعتبار المعركة بين ليبراليين متحرريين ويمينيين محافظين، ما يدخل بأميركا، كما أشرنا إلى دائرة الانقسام الأسوأ، من الانقلاب.