من البيّن  أنّ مثل هذا النظام توقَّف في وجوده على نجاح دولٍ بعينها، ذات قوَّةٍ واقتدار، في الخروج من نطاق حدودها القوميّة إلى العالم. ولقد اقترن مثلُ ذلك الخروج بحاجات موضوعيّة تولّدت في داخلها في ذلك الإبّان؛ فالثورة الصناعيّة إذْ أحدثت انقلابًا هائلاً في الإنتاج والموارد، تساوقت وصعود النظام الرأسماليّ الذي قوَّضت علاقاتُه الإنتاجيّة ما قبلها من علاقات إنتاج.

ولمّا كانت طفرة النظام الصناعيّ الرأسماليّ في مسيسِ حاجةٍ إلى تأمين شروط  نمُوّها وديمومتها؛ ولمّا كانت مواردها ليست دائمًا متاحة في المراكز  الصناعيّة، فقد سعت  هذه الأخيرة في البحث عنها خارجها، أي في تأمين الموادّ الخام، واستقدام اليد العاملة الرخيصة، وتوفير الأسواق الخارجيّة لسلعها ومنتوجاتها.

في سياق هذه السيرورة من الغزو والسيطرة، كان النظام الدولي يتشكل في أنويته الأولى من دون أن يتمظهر، حينها، في شكلٍ نظامٍ سياسيّ مؤسَّسيّ على مثال ما هو عليه اليوم.

غير أنّ مجرّد إخضاع البلدان الموطوءة أراضيها لحكم القوى الصناعيّة والعسكريّة الكبرى، فرض على تلك البلدان الخاضعة أن تصبح جزءًا من عالمٍ تسيطر عليه قوانين القوى الكبرى.

من الواجب التمييز، في هذا المعرض، بين الاستعمار والنظام الدوليّ بما هما ظاهرتان مختلفتان. ما كلّ استعمارٍ نظامٌ دوليّ، ولا كلّ المستعمرين أقاموا نظامًا دوليًا؛ فإسپانيا وهولندا والبرتغال من أسبق دول أوروبا إلى إطلاق حركة الاستعمار، وألمانيا النازيّة أخضعت أوروبا برمّتها – ما خلا بريطانيا – لاحتلالها المباشر، غير أنّ أيًّا منها لم يُقِم نظامًا دوليًّا.

يمكن لحركة الاستعمار أن تساعد في تهيئة شروط إقامة نظام دوليّ؛ وتلك، مثلاً، حال القوّتيْن الكبيرتيْن (بين نهاية القرن الثمن عشر وأوساط القرن العشرين): بريطانيا وفرنسا، ولكن يمكن للنظام الدوليّ أن يقوم على قاعدة الهيمنة بدلاً من الاحتلال الاستعماريّ المباشر على مثال النظام الدولّي للعظمييْن (بين نهاية الحرب العالميّة الثانية ونهاية الحرب الباردة): بين المعسكر الرأسماليّ الغربيّ والمعسكر "الاشتراكيّ" السوڤييتيّ – الأورو – شرقيّ. وإلى ذلك فإنّ معنى النظام الدوليّ يتجاوز مجرّد النّهب والاستغلال – وهما سمة الاستعمار – إلى الإدارة السياسيّة والأمنيّة والعسكريّة، بل إلى التأطير القانونيّ للعلاقات بين الأطراف  الشركاء في ذلك النظام.

وهذه إدارة قد تكون منفردة أو ثنائية أو بين أطراف كُثر، وليس شرطًا أن تكون فيها القيادة لإمبراطوريّةٍ مّا أو امبراطوريّات.

ما من شكّ في أنّ لفكرة النظام الدوليّ وجهيْن يتنازعان فيه؛ وجهٌ هيمنويّ يُفصِح عن نفسه في سياسات تحكُمها إرادة السيطرة والمًنْزِع إلى تسخير العالم وموارده لصالح الفريق الذي يسعى إلى تحقيق تلك السيطرة وإِحكام قبضتها؛ ووجْهٌ إنسانيّ أو كونيّ تحرِّكُه إرادةُ بناء عالمٍ إنسانيّ قائم على التعايش بين الأمم والشعوب، والتفاهم بينها على قيمٍ مشتركة وقوانين جامعة، يكون من شأن العمل بها أن يُعزّز السِّلم الإنسانيّة والتعاون، وقد يمهّد الأرضيّة نحو بناء مجتمعٍ دوليّ موحَّد. ولقد تصارعتِ الإرادتان، دائمًا، داخل النُّظُم الدوليّة التي قامت وإنْ لم يُكْتَب فيها  للإرادة الكونيّة أن تنتصر وتفرض أحكامَها.

وإذا تركنا جانبًا هاجس الهيمنة في حسابات السياسات المندفعة إلى فرض نظامٍ دوليّ بعينه، سنُلْفي أنّ الفكرة الكونيّةَ ظلّت تُخامِر البشريّة عبر التاريخ وأحيانًا، تُلهِمها في صنع الحضارات وإقامة الدول القويّة. وما من شكٍّ في أنّ منابت هذه النزعة العالميّة والكونيّة منابت دينيّة، في المقام الأوّل، ازْدُرِعت في تعاليم الأديان التوحيديّة الإبراهيميّة، وخاصّةً في المسيحيّة والإسلام بحسبانهما دينيْن موجَّهيْن إلى الناس كافّة، غير أنّه ما من شكٍّ – في الوقتِ عينِه – أنّ الطموحات الإمبراطوريّة الكونيّة لإمبراطوريّات قديمة ووسيطة، مثل البيزنطيّة والرومانيّة والعربيّة – الإسلاميّة، غذّت تلك الفكرة وأخذتْها إلى أشكال من التحقّق الماديّ جزئيّة، أي ضمن الحدود التي طالها سلطانُ تلك الإمبراطوريّات.

يبقى أنّ الاندفاعة الكبرى للفكرة العالميّة بدأت مع تدشينها الفكريّ بالنزعة الإنسانويّة،  في القرن 17K هذه التي وجدتْ لها تعبيرها السياسيّ والدستوريّ والقانونيّ في الدستور الأمريكيّ ومبادئ الثورة الفرنسيّة اللّذيْن نَهَلا من أفكار الإنسانويّين ومن فلسفة الحقّ الطبيعيّ والمدنيّ: من جون لوك – ابتداءً – ثم من مونتسكيو  وجان جاك روسو، قبل أن تَشرع الفكرة هذه في الصيرورة مشروعًا سياسيًّا حملتْهُ الامبراطوريتان البريطانيّة والفرنسيّة من دون أن تجد لنفسها التحقيق المؤسّسيّ الثابت ("عصبة الأمم" – مثلاً – لم تنجح كمشروع) قبل نهاية الحرب العالميّة الثانية وقيام منظمة الأمم المتّحدة.

على أن "التحقيق المؤسّسي" هذا لم يكن-على الحقيقة – تحقيقًا للفكرة العالميّة، في أبعادها الإنسانيّة، بل أتى يعبّر عن مصالح القوى الكبرى في النظام الدوليّ، ساعتئذ، ويترجم في قواعده توازُنات القوى بين الأطراف المنتصرين في الحرب العالميّة الثانية، الأمرُ الذي أصاب الفكرة الإنسانيّة الكونيّة في مقتل. وحين هبّت عاصفة العولمة، لم تَقُد إلى إنعاش الفكرة الكونيّة – رغم كلّ ادعاءات خطابها الإيديولوجيّ – لأنّ العولمة أتت، بكلّ بساطة، تترجم توازنًا دوليًّا جديدًا بين منتصرٍ ومهزوم في الحرب الباردة.