وفي كتابه "رايات الإسلام منذ محمد حتى وقتنا الحاضر/ Les drapeaux de l'Islam de Mahomet à nos jours" يحصي المؤلف بيير ل. لوكس وورم نحو 180 علمًا ارتفعوا على دول إسلامية عبر التاريخ الإسلامي الطويل.

من بين هذه السلالات والدول، نستطيع أن نحصي ست دول تولت قيادة العالم الإسلامي هي: الخلافة الراشدة، الدولة الأموية، الدولة العباسية، الدولة الأيوبية، الدولة المملوكية، والدولة العثمانية.

والعجب أن قطاعا ضخما من الإسلاميين - خاصة أهل تيار الإسلام السياسي- يختصرون "أمجاد الحضارة الإسلامية" في تلك الدولة الأخيرة: العثمانية.. فلا تجدهم يتناولون غيرها إلا نادرًا، والويل لم يتناولها بالانتقاد أو الانتقاص، فسرعان ما يستل هؤلاء كل ما لديهم من أسلحة تبدأ بالتسفيه وتنتهي بالطعن في عقيدة وإيمان الناقد مرورًا بما تيسر من سباب وشتائم، مهما قدّم من أدلة تاريخية أو ساق من أسانيد، وقلما تجد أحدهم يذكر العثمانيين إلا ب"الخلافة العليّة أعادها الله"، وقد نصبوا تاريخها كـ"قُدس أقداس" لا مساس به، الأمر الذي يستفز السؤال: لماذا ينال العثمانيون بالذات كل هذا التمجيد من الإسلاميين؟.

النموذج الأسهل:

من بين الدول الإسلامية يعد النموذج العثماني هو الأحط حضاريًا، فلم يترك العثمانيون إرثًا حضاريًا قيمًا كما فعلت كل من دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة، وإنما ارتبطت دولتهم بالقتال والحرب والتوسع في المقام الأول، والقارئ للتاريخ يدرك أن الحرب عمل أسهل بكثير من بناء حضارة بمختلف جوانبها من علوم وفنون وتعليم وتثقيف وتبني للتنوع والاختلاف والتواصل الإنساني الإيجابي.

بالتالي فإن المتشدقين بدعاوى "إحياء الحضارة الإسلامية" ينكشف جهلهم بمفهوم الحضارة بأنهم إنما يتجهون تلقائيًا إلى النموذج العثماني، فالحضارة بالنسبة إليهم ليست دار الحكمة ببغداد ولا مجالس علم المسجد الأموي بدمشق ولا جامعة قرطبة أو مدارس القاهرة، وإنما هي الغزو وإخضاع الشعوب.. ومن يحاورهم يلاحظ بسهولة أن أكثر تمجيدهم للعثمانيين إنما ينصب على الجانب القتالي لا الثقافي.. فأصحاب هذه العقليات السطحية إنما يتجهون تلقائيًا للنموذج الأسهل، بينما ينفرون من النماذج التي تحتاج إلى محتوى ثقافي يفتقرون إليه ومجهود ذهني تقصر طاقتهم عنه وينكشف معه تهافت دعايتهم.

اللعب على أوتار النوستالجيا:

في عام 1924م سقطت الدولة العثمانية (التي حمل حاكمها لقب الخلافة رسميًا من العام 1876م فحسب) الأمر الذي أحدث صدمة عند قطاع كبير من البسطاء المؤمنين بأن السلطان هو "ظل الله على الأرض" وأن دولته هي "دولة الإسلام"، خاصة مع خضوع أغلب البلدان الإسلامية -آنذاك- للاحتلال الأجنبي مما كان يستفز كلا من المشاعر الوطنية والدينية.

فكان من السهل على الطامعين في توظيف "طاقة الصدمة" هذه أن يحوّلوا الدولة العثمانية الساقطة إلى "قميص عثمان" ينصبونه للناس ليجمعوهم حوله ويمنوهم بـ"إحياء المجد القديم"، ليسهل عليهم توجيه المشاعر الدينية و"نوستالجيا الخلافة" لصالح خططهم المستقبلية نحو السلطة والنفوذ.. وليسهل عليهم ذلك فلا بد من خلق "صورة ذهنية مثالية" لدولة العثمانيين وبثها في أذهان المتعلقين بأستار التاريخ العثماني.. تلك الصورة يجب أن تخلو من السلبيات وأن تقوم على التغني بالأمجاد فحسب، ومداعبة أمنيات هؤلاء البسطاء بأن "لكي نعيد هذا المجد يجب أن نلقى تأييدكم ودعمكم باعتبار أننا ورثة هذه الدعوة وحملة رايتها".

كذلك فإن تحويل تلك المشاعر نحو "الدولة العثمانية" يحيّد "العاطفة الوطنية"رغم عدم تعارضها مع الانتماء للدين أيًا كان، فبدلًا من أن يغضب المصري لاحتلال بريطانيا بلاده، واللبناني لاحتلال فرنسا للبنان -على سبيل المثال- ينفصلون عن الولاء الوطني الذي لا يشترط في "الزعامة/القيادة/السلطة الحاكمة" أن تنتمي بالضرورة للتوجه الديني نفسه وإنما يكفي تمتعها بالانتماء الوطني، ويتحول الولاء إلى ولاء ديني "طارد لأي ولاءات أخرى" حتى أن الرجل من هؤلاء يقبل أن يحكم بلده مسلم من غير وطنه ولا يقبل أن يحكمه مسيحي من مواطنيه! (وهو ما قاله صراحة مهدي عاكف المرشد الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين من أنه يقبل أن يحكمه مسلم ماليزي ولا يحكمه مسيحي مصري)، وهو توجيه يعود بالمصلحة لتيار الإسلام السياسي أنه يطرد من منافسته -بطريقة غير شريفة- أي تيارات أخرى أو أي منافس يختلف في الدين أو المذهب!.

غرس وتغذية عقدة الاضطهاد:

ثمة تيمة يلعب عليها أهل تيار الإسلام السياسي وهي "عقدة الشعور بالاضطهاد"، فهم يصدرون لأتباعهم أن "نحن الغرباء المحاصرون المضطهدون القابضون على الجمر".. يمكننا أن نشبه ذلك بـ"عقدة الماسادا" (نسبة إلى حصار الرومان لثوار المملكة اليهودية القديمة في قلعة ماسادا) التي تعني "عقدة شعور جماعة بشرية أنها دائمًا مُحاصَرة ومهددة ومتآمَر عليها من العالم كله".

يبدو هذا واضحًا في تصدير هؤلاء لفكرة أن الدولة العثمانية هي "دولة مظلومة مُفتَرَى عليها سقطت نتيجة تآمر العالم "الغرب الكافر" عليها وتعاون خونة الداخل معه لإسقاطها"، في تدليس فاضح ومخالفة صارخة لحقيقة يدركها أي قارئ للتاريخ أن "الدول لا تُقتَل ولكنها تنتحر" وأن "لكل دولة مراحل نمو وشباب وشيخوخة واحتضار وموت" وأنه من المستحيل أن تقتصر أسباب سقوط دولة على التآمر الخارجي والخيانة الداخلية فحسب.. ولكن الغرض من هذا التدليس هو زرع فكرة الحصار وتكثيفها في نفس المتلقي حتى تتحول إلى عقدة نفسية لا تختلف كثيرًا عن "البارانويا/اضطراب الاضطهاد" إلا من حيث كونها "عقدة جماعية".

تغذية هذه العقدة يعود على المتبوعين من أهل هذا التيار بفائدة كبيرة، إذ إنهم يعزلون التابع لهم عن محيطه بجدار من الشك والارتياب، فيصبح ما يغرسون من أفكار في ذهنه في مأمن من أي مؤثرات قد تفسد "عملهم"، ولكي يُخدَم هذا الغرض فليس أفضل من استحضار نموذج حديث لدولة إسلامية كبرى سقطت لأنها تحمل أسباب سقوطها، واختصار تلك الأسباب في "التآمر على الإسلام والمسلمين" بحيث تكون دليلًا للمتلقي أنه دائمًا مستهدف من الجميع "فقط لأنه هو" فينشأ خندق من الريبة والتخوين بينه ومن يختلفون عنه بينما يزداد التصاقًا بمن عبثوا بعقله!.

تمجيد النموذج العثماني وتحويله إلى "صنم تاريخي" إذاً هو ليس غاية وإنما هو مجرد وسيلة تخفي وراءها ما هو أكثر من مجرد "حماس مبالغ فيه" أو "عاطفة عمياء".

ولأن الحكمة تقول: "إذا ضعف العقل استسلم للخرافة" فإن مواجهة هذا العبث إنما تكون بتقديم قراءة جديدة موضوعية للتاريخ العثماني، وتحليل علمي دقيق لتفاصيل هذا التاريخ، وتحييد للأحكام المسبقة من عملية التقييم والنقد.

ولا أراني أبالغ إذ أقول إنه يمثل القضية الأهم لكل غيور على التاريخ سواء من ناحية المهنية أو الأمانة العلمية.