يوسف وهبي، وإحسان عبد القدوس، وفريد الأطرش، ونجاة الصغيرة، والشاعر اللبناني جورج جرداق جالسا إلى جوار محمد عبد الوهاب.

كان من عادة عبد الوهاب أن يقضي الصيف في لبنان وبالتحديد في هذا الفندق بإطلالته الساحرة على وادي لا مارتين في جبل لبنان، لكنه في هذا العام عام سبعة وستين أمضى نحو العام.

قبل هذه الجلسة بعامين وفي ليلة من ليالي صيف القاهرة، دعا الصحفي المصري مصطفى أمين زميله اللبناني جورج جرداق لسهرة في شرفة فندق الهيلتون، وأخبره أن مفاجأة بانتظاره، وكانت المفاجأة هي أن قدمه لكوكب الشرق أم كلثوم التي أعجبت بشخصية جرداق وتعليقاته الساخرة ومفرداته خفيفة الظل.

وحين سافر عبد الوهاب إلى لبنان طلبت منه أن ينقل تحياتها إلى جرداق وتسأله أن يكتب قصيدة لتغنيها.

ويوما تلو الآخر يسأل عبد الوهاب جورج جرداق: أين القصيدة؟ فيخبره بأن الوحي لم يطرق بابه بعد، حتى كانت تلك الليلة حيث "وشوشه" عبد الوهاب ليخرجا إلى شرفة الفندق وفي الشرفة كان المشهد بديعا والقمر مكتملا فإذا بجرداق يدندن:

هذه ليلتي وحلم حياتي

بين ماضي من الزمان وآتي

فيطلب منه عبد الوهاب إعادة ما قال فيفعل، فيرد عبد الوهاب بحماس: هذه هي القصيدة التي ستغنيها أم كلثوم فلتكملها. وفي اليوم التالي يكمل القصيدة ويلحنها عبد الوهاب لتغنيها أم كلثوم بعدها بأكثر من عام في الثلاثين من ديسمبر عام 1968 على المسرح القومي في السودان.

وعن جورج جرداق يقول عبد الوهاب: صاحب مزاج ظريف وفي شعره من الموسيقى ما لا يستطيع أن يجاريه أو يدانيه اللحن 

إنها ليال ثلاث وليست ليلة واحدة.

ليلة تعرفت أم كلثوم على جورج جرداق في مصر وليلة كتبت القصيدة في لبنان وليلة تغنت بها أم كلثوم في السودان.

تحملني الليالي الثلاث إلى لبنان الذي يعيش حاليا ثورة شعبية مكتملة الأركان، يسعى من خلالها اللبنانيون إلى إسقاط النظام الطائفي ليس من دوائر الحكم وحسب، ولكن من دوائر الوعي الجمعي والوجدان الشعبي.

كان جرداق مسيحيا، لكنه كتب عن الإسلام وعن الإمام علي واحدا من أهم مؤلفاته "موسوعة الإمام علي" عابرا بثقافته العربية الواسعة حدود انتمائه الديني، شأنه شأن جارة القمر فيروز، وكثير من مبدعي لبنان متنوعي المذاهب ومختلفي الطوائف.

وفي ثورة اللبنانيين الحالية إعادة إحياء لروح لبنان التي تتجاوز حدود الطائفية ليصبح الوطن وطنا للجميع.

كانت الليالي الثلاث عربية بامتياز موزعة على ثلاث عواصم: القاهرة وبيروت والخرطوم، وكان جرداق عروبيا اشتراكيا حتى النخاع.

وفي ثورة لبنان الحالية تأكيد لعروبة لبنان في مواجهة النفوذ الإيراني الذي بات عصيا على التخفي وراء شعارات لم تعد تنطلي على أحد.

في حديث مع جورج جرداق على إحدى القنوات العربية عام 1996 يقول الرجل: إن من أخطر ما يواجه الشعوب أن تفقد الكلمات معانيها.

كان يتحدث عن الشعر، لكن العبارة تنطبق على كل الكلمات الرائعة التي قد تفقد معانيها بفعل من يستغلونها لخدمة أهدافهم.

إن ما يعيشه لبنان حاليا هو ثورة بكل المعاني والخطر الحقيقي هي أن تفقد تلك الثورة معانيها بمحاولات الالتفاف عليها وحرفها عن مسارها الوطني الجامع.