انكمش الاقتصاد الإيراني وتفاقمت أزماته بشكل كبير بعد أن فرضت واشنطن عقوبات مشددة، شملت معظم القطاعات الاقتصادية مثل بيع النفط والنقل والتأمين والتحويلات المالية.

وقعت طهران على الاتفاق النووي بأمل رفع العقوبات التي كانت مفروضة عليها من قبل المجتمع الدولي من جهة، والسماح لها بتحقيق طموحها في عدة ملفات، أهمها فرض هيمنتها على المنطقة العربية والاستمرار في تجارب الصواريخ الباليستية من جهة أخرى.

أعربت طهران في بداية انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عن ارتياحها من تلك الخطوة، واعتبرتها انتصارا لها، وبداية عزلة أميركا ديبلوماسيا وسياسيا.

كانت إيران تراهن على الموقف الأوروبي والصيني والروسي، في بيع نفطها والاستمرار في علاقاتها التجارية مع تلك الجهات، بالإضافة إلى المراهنة على الدول التي تخضع لنفوذها بشكل كامل او جزئي مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان، وجعل تلك الساحات أوراقا رابحة لها لضغط والمساومة مع دول العالم.

الموقف الأميركي

أعلن الرئيس ترامب انسحاب بلاده بشكل كامل من الاتفاق النووي في الثامن من مايو 2018 واصفا إياه بالكارثي والأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، الذي لم يكن رادعا لطهران في طموحها لصنع القنبلة النووية وتجارب الصواريخ الباليستية فحسب، بل أطلق يد الحرس الثوري الإيراني في دعم الإرهاب والجرائم المنظمة وزعزعة أمن واستقرار المنطقة.

وفرضت إدارة ترامب عقوبات مشددة على طهران ومارست أقصى الضغوط على جميع الدول من أجل وقف تعاملها وعلاقتها التجارية مع النظام الإيراني.

ونتيجة لتلك السياسات الأميركية خاصة خطة تصفير شراء النفط، انسحبت رويدا رويدا جميع الشريكات ووقفت معظم دول العالم تعاملها التجاري وشراء النفط من إيران.

وتركت الولايات المتحدة الأميركية الباب مفتوحا للتفاوض مع طهران من أجل عقد اتفاق جديد يشمل جميع الملفات المثيرة للقلق الإقليمي والدولي، التي جمعتها الوزارة الخارجية الأميركية باثني عشر شرطا أو مطلبا من أجل بدء بمفاوضات جديدة مع النظام الإيراني.

الموقف الأوروبي

حاولت أوربا خاصة الدول الثلاث الموقعة على الاتفاق النووي (بريطانيا، فرنسا والمانيا) أن تحافظ على علاقاتها التجارية مع طهران وتحتفظ بعلاقاتها التجارية والسياسية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية في آن واحد.

لكن وجدت نفسها بين مطرقة سياسات الإدارة الأميركية الحازمة والمشددة تجاه طهران وكل من يتعامل معها، وبين سندان سياسات طهران الإرهابية والمزعزعة لأمن واستقرار المنطقة والعالم التي شهدت تصعيدا خطيرا في الآونة الأخيرة.

ومن أجل أن تحافظ أوروبا على الاتفاق النووي ومصالحها التجارية مع إيران وتلتزم بالعقوبات الأمريكية في آن واحد أطلقت عدة مبادرات أهمها مبادرة الانستكس، التي تتيح لطهران الاستمرار ببيع نفطها لأوروبا والحصول على الدواء والغذاء والمواد الطبية وغيرها من السلع والمواد غير المشمولة بالعقوبات الأميركية.

لم تنجح تلك المبادرات نتيجة الموقف الأميركي المصر على تصفير النفط الإيراني وفرض عقوبات على كل دولة أو مؤسسة تتعامل مع طهران وكذلك مراوغة الأخيرة في المصادقة على اللوائح المالية المتعلقة بمجموعة العمل المالي.

وفرت سياسات طهران التصعيدية تجاه الدول الأوروبية خاصة بريطانيا، مثل استهداف وقرصنة ناقلات النفط في الخليج العربي، الفرص والمبررات لإدخال النظام الإيراني بعزلة إقليمية ودولية بشكل أسرع مما هو متوقع.

وانضمام بريطانيا وعدد من الدول في الحلف الأميركي لحماية الملاحة في المياه الإقليمية دليل واضح على نجاح خطط إدارة ترامب في عزل إيران وسحب أصدقائها واحدا تلو الأخر.

الموقف الإيراني

بعد فشل النظام الإيراني في التعويل والمراهنة على الدول الأوروبية والصين وروسيا للتحايل على العقوبات الأميركية وإنقاذ اقتصاده الذي يتجه نحو الانهيار، انتهج سياسة "الصبر الاستراتيجي"، وتتمثل تلك الاستراتيجية بمقاومة العقوبات والصمود حتى انتهاء فترة رئاسة ترامب الأولى، بأمل فوز الحزب الديمقراطي وعودة المياه إلى مجاريها كما كانت قبل مجيء الرئيس ترامب.

لكن أثبتت المؤشرات الاقتصادية أن النظام الإيراني لم يستطع الصمود حتى ذلك الحين، فهو مهدد إما باحتجاجات شعبية تعم إيران كلها نتيجة تردي الأوضاع المعيشية، أو انهيار اقتصادي مفاجئ يؤدي بانهيار سياسي وسقوط النظام.

ونتيجة ذلك اتخذ النظام الإيراني سياسة التصعيد والهروب إلى الأمام من أجل خلط الأوراق على الولايات المتحدة الأميركية. وتنفيذا لتلك السياسية قام الحرس الثوري الإيراني باستهداف الملاحة الإقليمية وتدرج في التصعيد من استهداف حاملات النفط إلى إسقاط الطائرة الأمريكية المسيرة وصولا إلى استهداف منشآت أرامكو في السعودية بعدما جس نبض ردود فعل الولايات المتحدة الأميركية التي تمسكت بورقة العقوبات والديبلوماسية الناعمة مستبعدة الرد العسكري في مواجهة التهديدات الإيرانية المتصاعدة في الوقت الراهن.

يبدو أن طهران فشلت في تحقيق مصالحها في ظل الوضع الراهن نتيجة عدم انجرار العالم لتصعيدها العسكري، لذلك بدأت بتقليص التزاماتها تجاه الاتفاق النووي وانتهاكه على شكل مراحل، وستصل دون شك إلى مرحلة اللاعودة، حينها ستضطر أوروبا للانسحاب من الاتفاق النووي وتقوم بفرض عقوبات على طهران ونقل ملفها إلى مجلس الأمن، وستكون أولى تلك الخطوات بعد تنفيذ طهران المرحلة الرابعة من انتهاكها للاتفاق النووي. وسيشمل ذلك الانتهاك تشغيل الدائرة الثانوية لمفاعل اراك النووي وإعادة تصميمه من جديد. وستشغل طهران أجهزة طرد مركزي متطورة لتخصيب اليورانيوم في منشأة فوردو ونطنز وستزيد من إنتاجها للماء الثقيل واليورانيوم المخصب.

الاستنتاج

من الواضح جدا أن طهران في موازاة تقليص التزاماتها النووية، فهي قلصت بذات الوقت خيارات أوروبا للحفاظ على الاتفاق النووي، وزادت خيارات واشنطن في التعامل معها. وبذلك وضع النظام الإيراني نفسه في زاوية ضيقة نتيجة سياساته التصعيدية تجاه العالم، لم يبقى أمامه إلا خيارين لا ثالث لهمها، إما أن يتجرع السم قطرة قطرة وهو يشاهد تآكله من الداخل شيئا فشيئا نتيجة العقوبات والعزلة حتى تقوم احتجاجات شعبية عارمة يليها انهيار اقتصادي وسياسي محتوم، أو يتجرع السم مرة واحدة من خلال الدخول بمواجهة عسكرية مع أميركا وحلفائها في المنطقة ويسقط بشكل سريع ودراماتيكي بعكس ما يروج له بأنها ستكون حرب شاملة وطويلة الأمد.