ويبدو أن الرئيس غير عازم على منح بعض المسارات حيزها الطبيعي، ومراجعة حربه على الطواحين، في وقت هو أحوج ما يكون فيه إلى الحلفاء لا الخصوم. بل إن ترامب لم يعطِ السيناتور لندسي غراهام فرصة المناورة، وهو حليفه الجمهوري الأهم في الكونجرس، للتفاوض مع قيادات الديمقراطيين كبيلوسي ماكونيل وشومر، بعد منحهم نصراً معنوياً في مجلس النواب، لاحتواء بعض العناصر في حملة عزل الرئيس، بعد دخول الحملة مرحلة الجلسات التمهيدية.

كل المؤشرات تنبئ ببلوغ هذه الإدارة المرحلة الأولى من "الإدارة المكسورة " مع تنامي الملفات المتراكمة بفئتيها الداخلية والخارجية. وما يزيد زخم تأثيراتها، هو التخبط الواضح للرئيس في إدارة العلاقات، داخل إدارته ومع الحزب الجمهوري، للدفع باتجاه احتواء مضار تلك التأثيرات، بعد دخول الفترة الرئاسية مرحلة ما تصالح الأميركيون على تسميتها بـ "البطة العرجاء".

الملف الأكثر استنزافاً الآن، هو قرار الانسحاب من شمالي سوريا، لما يلاقيه من إجماع أميركي وسياسي، ولما له من تبعات على مصالح الولايات المتحدة، ولقياس حالة الارتباك المتنامية، لننظر إلى ما صدر عن الرئيس ترامب خلال اجتماع الإدارة: "الوضع مستقر شمالي سوريا، وجميع الأطراف راضية، ولم تسجل حالة اختراق لوقف إطلاق النار غير حالة قنص واحدة. أما ما يخص ملف نفط الشرق الأوسط، فنحن من يسيطر على النفط الآن ولم تخرج طلقة واحدة".

هذا التخبط في وقت اضطر فيه وزير الخارجية بومبيو إلى زيارة أكثر من عاصمة وحليف، بعد إعلان الاتفاق مع الرئيس أردوغان، وبعد ذلك إعلان بدء وزير الدفاع إسبر جولة أخرى لطمأنة الحلفاء ودرء الأضرار. في حين يتم التحضير للقاء في سوتشي، بين الرئيسين بوتن وأردوغان، بشأن إخلاء مدينتي كوباني (عين العرب) ومنبج، من قوات سوريا الديمقراطية وتسليمهما لتركيا لإقامة المنطقة الآمنة.
ما يُقرأ من ذلك وغياب إيران عن ذلك الاجتماع، هو أن روسيا أصبحت عرابة المنطقة سياسياً، وأن الرئيس بوتن لن يغامر بما أنجز في الرياض وأبوظبي، خصوصاً بعد التغير في الموقف السياسي عربياً من سوريا، وكذلك اعتماد أوبك كمنصة دائمة، بين منتجي النفط، داخل المنظمة وخارجها، للتنسيق في ما بينها بشأن سقف الإنتاج.

إلا أن تحدي مركز الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، من قبل روسيا، زامنه آخر في المحيط الهندي، عبر لقاء قمة بين الهند والصين في الهند. فالصين الطموحة والمنازعة للولايات المتحدة في مناطق نفوذها التقليدية، تعتمد الانتهازية لا البراغماتية فقط، في اقتناص الفرص، خصوصاً أن الولايات المتحدة غير متجانسة في رؤيتها الاستراتيجية، مع خواء في مستوى القيادات الوطنية الملهمة والقادرة على تغيير صورة الولايات المتحدة، بعد اثني عشر عاماً من التخبط.

فهل يتمكن الرئيس الصيني شي جينبينغ، من إقناع رئيس الوزراء الهندي مودي، بتقارب أكبر مع الصين في ملفات استراتيجية عدة، لا سيما أن الهند تحتاج إلى عقود طويلة، للتحول إلى قوة عسكرية حقيقية قادرة على مقارعة الصين. كما أن التعاون في ملفات مشتركة، قد يفضي إلى حلحلة الكثير من الملفات ذات الأولوية الاستراتيجية للهند، من سلامة الملاحة في الخليج العربي إلى محاربة الإرهاب وإعادة إعمار أفغانستان، إضافة إلى الملف النووي الإيراني، وربما إقناعها بالشراكة في مبادرة الحزام والطريق.

كل تلك الملفات، قد تبعث بالروح من جديد، في مشاريع موازية أخرى مثل مجموعة دول البريكس، خصوصاً بعد صعود الدور الروسي شرق أوسطياً، إثر التراجع الأميركي اختيارياً، مما قد يشجع البعض على التفكير الجاد في مقترح روسيا، تسعير النفط والغاز بالعملات الوطنية.

تعاني المؤسسة السياسية الأميركية، عيباً خلقياً، نتيجة إدمان المال السياسي والوعي الشعبوي، الذي أنتج الحالة الترامبية كردة فعل. هذه الحالة قد تتعمق بشكل أكبر في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ومن المؤكد أن الشرق الأوسط لن يكون خارج  مركز التجاذبات الأميركية، ولنا أن نتصور شكل الملفات والموقف الأميركي منها، في حال فاز الحزب الديمقراطي. الشرق الأوسط سيبقى بين حجري الرحى الغربية والشرقية الصاعدة، وعلينا الآن إدراك أن رياح الشرق لن تأتي بأفضل مما جاءت به الرياح من الغرب، لذلك علينا الاستعداد لذلك اليوم.