الأظهرُ في تلك المواقف جميعًا موقف الإدانة السعودية للعدوان التركيّ السافر على السيادة السورية ووحدة أراضي سوريّة واستقلالها. وهو وَقَع التعبير عنه بأشدّ المفردات دقّةً ووضوحًا وقوّة، على النحو الذي يُؤْذِن بتحوُّلٍ حاسم في النظر إلى الأزمة السوريّة، وبتغيّرٍ وشيك في نظام العلاقات العربيّة – العربيّة المُصاب بالتأزّم والشلل منذ العام 2011.

لم تبلغ المواقف الدوليّة من العدوان التركيّ على سوريّة الحدود التي بلغتها المواقف العربيّة من الوضوح والمبدئيّة (خاصةً السعودية، مصر، الإمارات العربية المتحدة، لبنان، الجزائر...)، إذ هي راوحت في منطقة رماديّة بين إبداء الأسى والأسف والقلق وحثّ أردوغان وجيشه على ضبط النفس وعدم المسّ بالمدنيّين.

لكنها – إلاّ في ما ندر – لم تُبْد أيّ تفهُّم لحاجة تركيا إلى هذه العمليّة العسكريّة، ولا إلى إجازتها أو غضّ الطرف عنها. حتى الولايات المتحدة الأمريكيّة، التي باع رئيسُها "حلفاءَه" الكُرد لنظام إردوغان، الْتَأَمَتْ فيها معارضةٌ عريضة لقراره في الكونغرس والحزبين الرئيسيْن فيه ("الديمقراطيّ" و"الجمهوريّ")، بل تخطَّتِ المعارضةُ تلك حدود الكونغرس والرأي العامّ لتصل إلى داخل البيت الأبيض نفسه، وإلى الدائرة المقرّبة من دونالد ترامپ.

في هذا العدوان التركيّ خاسرون كثر سيدفعون أثمانه. سوريّة – التي يقع هذا العدوان على أراضيها وسيادتها – لن تكون في جملة هؤلاء الخاسرين على الرغم من الاحتلال التركيّ لأجزاء من شمالها الشرقي؛ فهي، أوّلاً، كسبت تعاطُف الجميع بمن فيهم من كانوا يعالنون نظامَها السياسيّ خصومةً حادّة ويدعمون المعارضة ضدّه؛ وهي، ثانيًا، قادرة على الدفاع عن أراضيها وإلحاق الأذى بالجيش التركي، بقواتها النظاميّة من جهة، وبالمقاومة الشعبيّة السوريّة في المناطق الشماليّة التي تتعرّض للاجتياح من جهة ثانيّة؛ ثم إنّها، ثالثًا، تدرِك أنّ الغزوة التركيّة ستنكفئ بالضغط الروسيّ أو بالهجوم السوريّ على قواتها الغازيّة وعلى معاقل عملاء تركيا في إدلب وإفساد كلّ ما سعى نظام إردوغان في بنائه ضدّ سورية. في المقابل، سيكون هناك خاسرون ثلاثة في هذا العدوان:

تركيا "العدالة والتنمية"، أوّل هؤلاء؛ إضافةً إلى ما ستخسره من جنود ومعدّات وحلفاء من الجماعات المسلحة تابعين لها، في مواجهة قوات "قسد" المدرّبة على حرب المدن، وفي مواجهة الجيش السوريّ، ستتورّط أكثر في الأوحال السوريّة، ولن تجني من مغامرتها العسكريّة أيًّا من الأهداف (المنطقة الأمنيّة، بناء القرى، إعادة توطين مليون لاجئ، التغيير الديمغرافي للشمال، كسر شوكة السلاح الكرديّ...). هذا دون احتساب آثار مغامرتها في الداخل التركيّ (استفزاز "حزب العمّال الكردستاني"؛ التناقضات الداخليّة...). وإذ سيكون على نظام أنقرة جرّ تركيا إلى عزلة إقليمية ودوليّة، بتحدّيه لإرادة المجتمع الدوليّ، قد يعرِّض نفسَه إلى عقوبات اقتصاديّة قاسية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبيّ، ناهيك بإفساد العلاقات بروسيا (وربما الاصطدام بها) وفقدان أيّ دور سياسيّ في الأزمة السوريّة بعد نقض التزاماته في سوتشي.

وثاني الخاسرين الحركة الكرديّة التي تقود "قوّات سورية الديمقراطيّة"، فهذه التي تخوض حربًا غير متكافئة في القوى، خاصّة في مواجهة الغارات الجويّة التركيّة، لن تقوى على المقاومة إلاّ بدعمٍ مباشرٍ من الجيش السوريّ. وإلى ذلك فخسارتُها متولّدة من حساباتها الخاطئة تجاه دمشق، وانسياقها إلى التعويل على الحماية الأمريكيّة والتحالف مع ترامپ على حساب التفاهم الوطنيّ مع الدولة السوريّة لحماية البلد ووحدته وسيادته. إن هذه الحركة تدفع، اليوم، الثمن الفادح لأوهامها الفيدراليّة التي غذّتْها لديها علاقاتُها بالولايات المتّحدة، وتجاهُلها التامّ لامتناع تحقيقها سوريًّا وتركيًّا على السواء. إنّها، في هذه الأوهام، تكرّر أخطاء نظيرَتَها الكرديّة العراقيّة، وعلى نحوٍ أسوإ، إن لم تكن جادّة وقاطعة في عودتها إلى حِضن الوطن والدولة.

أمّا ثالث الخاسرين فإدارة ترامپ، فإلى أنّ هذه الإدارة تقدّم عن نفسها أسوأ صورة لإدارة متذبذبة ولا موثوق بها - تبيع حلفاءها بكلّ يُسْر وتتخلّى عنهم كلّما تبيَّنت لها في ذلك مصلحة - ستواجَه مساءلات في انسحابها المفاجئ من دون تحقيق أهداف سياسيّة؛ عن تخلّيها عن الكرد؛ عن تسليمها أمر الإرهابيّين إلى تركيا التي هي مَن استقدمهم وأدخلهم الأراضي السوريّة؛ عن تركها سوريّة مجالاً للنفوذ الحصريّ الروسيّ... إلخ. وهذه جميعُها ستصبح موضع امتحانٍ سياسيّ لترامپ في الداخل الأمريكيّ، وقد تؤثر على مستقبله الانتخابيّ لولايةٍ رئاسيّة ثانيّّة.